ينحصر هاجس أمريكا الأكبر في الهيمنة على النظام العالمي كقطب أوحد. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية كانت أمريكا مؤهلة لأن تحمل الصولجان وتجلس وحيدة على العرش بقوتها الاقتصادية الخرافية وبسلاحها الأسطوري، لكن بعض الأخطاء جعلتها تهبط درجة لتصبح شريكة في النظام العالمي مع الاتحاد السوفيتي.
لقد تعامل الفكر السياسي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بأقلام كبار المفكرين على أن نتائج الحرب أفرزت واقعاً تلقائياً يتمثل في القطبية الثنائية بين السوفيت والأمريكان. وهو تسجيل أغفل مسافة زمنية قصيرة فور انتهاء الحرب، تلك هي أن النظام العالمي آنذاك كان بقطب واحد، إنه القطب الأمريكي بلا منازع.
لكن أمريكا فهمت أن الحرب العالمية الثانية هي التي أجلستها على مقعد القطبية المتصدر في العالم، وهذا ما جعلها تتعامل مع الحروب على أنها مصدر قوتها، وأنها من غير وجود عدو لن تكون أمريكا. وبالخضوع لهذه القناعة، سارعت الى اتخاذ الاتحاد السوفيتي عدواً لها، بعد أن كان حليفها في الحرب ضد دول المحور، وتم الترويج لفكرة الحرب الباردة بقوة. وهي حرب وهمية لا وجود لها إذا نظرنا الى تاريخ العلاقة المتأزمة بين السوفيت والأمريكان بعد انتصار الثورة البلشفية عام ١٩١٧.
هذا التوجه الأمريكي العدائي تجاه الاتحاد السوفيتي، شجع ستالين على قبول فكرة الحرب الباردة والجلوس في المقعد المستحدث للقطب الثاني في العالم. لقد قدّم الأمريكان له خدمة تاريخية لا يرفضها أي زعيم، فبدل فكرته القديمة (جزيرة الاشتراكية) التي كان يحرص ان يحفظ فيها الاتحاد السوفيتي، انفتح أمامه العالم بأسره، ليكون الند للقوة الأعظم ذات العقل الصغير والعضلات القوية.
وفيما اشتركت معظم الدول الأوروبية في التوجهات الأمريكية بحربها الباردة، فان الصين واليابان وألمانيا اتجهت نحو أوضاعها الداخلية لتبني مستقبلها الصناعي والاقتصادي بخطوات حثيثة.
انشغلت أمريكا بحربها الباردة، فصممت مجموعة من الاستراتيجيات التي لم ينجح أي منها مثل (الاحلاف العسكرية، والحصر والاحتواء) وقد تناولتُ ذلك في كتابي (مبادئ الرؤساء الأمريكان). وكان من نتائج هذا الانشغال، التورط في أزمات وحروب متفرقة بأهداف لا تتحقق، وكانت جيوشها ومشاريعها تعود أحياناً متوجة بفشل ذريع، كما في فيتنام وكوبا وإيران ولبنان.
مع انتهاء الحرب الباردة (إعلامياً) بتفكك الاتحاد السوفيتي، واجهت أمريكا معضلة البحث عن عدو جديد. ولم يكن بين الأقوياء من يرغب في خوض صراع لا طائل من ورائه.
أشغلت أمريكا نفسها في الأزمات المحلية، وكانت تصنع من دول المستوى الثالث أو الرابع أو الأقل من ذلك أعداءً لها، مسكونة بعقيدتها القديمة (أمريكا بدون عدو لن تكون أمريكا).
ظلت الولايات المتحدة تعيش تصوراتها الخاصة وتتمسك بها أشد التمسك. ورغم اهتمامها بمراكز الأبحاث ومؤسسات التحليل والدراسة، إلا أنها لم تستطع أن ترى العالم يتغير، وأن الحروب التي تشعلها في المناطق البعيدة عنها تحرق أطراف ثوبها. لقد أخذها شعور الزعامة العالمية والقطب الواحد الى عالم متأثر بالأحلام، وبلغت فيه موقع الذروة حين صدّقت بنظرية نهاية التاريخ، واعتبرتها الحقيقة المطلقة.
* * *
لم تتنبه أمريكا الى حالها مقارنة بالفترات السابقة حين كانت صراعاتها القديمة تجري مع قوى دولية لها مكانتها، بينما وصل بها الحال الى صراع مع حركات سياسية. لقد هزمتها أفغانستان الفقيرة، وأخلت الأرض بشكل عاجل أمام حركة طالبان ـ مع رفضنا لنهج طالبان المتطرف ـ وكانت تلك هزيمة نكراء تتكبدها أمريكا العظمى.
ساندت أمريكا بثقلها العسكري والتكنولوجي السعودية لتقضي على الحوثيين، فأنهى الحوثيون تحالف السعودية العريض، ومزقوه تمزيقاً ببطولاتهم النادرة. ثم فرضت حركة أنصار الله إرادتها بمراقبة حركة الملاحة في البحر الأحمر انتصاراً لأهل غزة، ووقفت بجدارة نداً قوياً ضد الولايات المتحدة الأمريكية.
وبذلت أمريكا كل مساعيها من أجل سحق حزب الله في لبنان، لكنه جعل حاملات الطائرات العملاقة تقف بعيداً عن الشواطئ اللبنانية بمئات الكيلومترات. وحين اندلعت حرب غزة، دخل البيت الأبيض بقادته وخبرائه في هاجس المواجهة مع الحزب، وراحوا يكررون السؤال على أنفسهم: ماذا لو دخل حزب الله حرباً مفتوحة مع إسرائيل؟ سؤال له وقع الكابوس المرعب في نفوسهم.
أما في غزة، فان الجيش الذي كانت ترى فيه واشنطن أنه امتدادها الضارب في الشرق والأوسط، وقوتها التي لا تقهر، فقد صار نكتة يتندر بها المحللون العسكريون، وبرهن أبطال غزة على أن إسرائيل كيان مهزوز من الداخل، بالبطولات التي قدموها رغم المحارق الإسرائيلية على مدار الساعة.
ليست هذه التحولات مسألة بسيطة، إنها نقلة كبرى في مسار الأحداث الدولية، عنوانها الأبرز أن النظام العالمي لم يعد صالحاً للنظر اليه بمفاهيم السنوات السابقة. لقد بدأ نظام عالمي جديد يتشكل، وأول ملامحه أن محور المقاومة أحد أقطابه المؤثرة.
المزيد من المشاركات