الإبادة الجماعية في غزة

جون جيه مير شايمر

أرغب بتسليط الضوء على وثيقة ذات أهمية كبرى تستحق الاطلاع الواسع والدراسة العميقة، خاصة للمهتمين بتطورات الوضع في غزة. الوثيقة المعنية هي عبارة عن ملف مفصل من 84 صفحة قدمته جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية في تاريخ 29 ديسمبر 2023، والذي يتضمن اتهامات (لإسرائيل) بارتكاب أفعال ترقى إلى الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة. يُشدد الملف على أن التصرفات (الإسرائيلية) منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023 تهدف إلى إلحاق الدمار بجزء كبير من المجموعات الوطنية والعرقية والإثنية الفلسطينية في قطاع غزة. وتتماشى هذه التهم بشكل صريح مع تعريف الإبادة الجماعية المدرج في اتفاقية جنيف، التي تعد (إسرائيل) أحد الموقعين عليها.

 

يُعد الملف المقدم لائحة دقيقة ومتقنة تصف بمهارة فائقة الأعمال التي نفذتها (إسرائيل) في غزة. يتسم هذا المستند بشموليته وصياغته المتقنة وطرحه القوي للحجج، فضلاً عن توثيقه الشامل والدقيق. ويتألف الملف من ثلاثة أجزاء أساسية، كل منها يعكس بعمق تفاصيل الواقع الميداني.

 

وأود التنويه إلى وثيقة ذات أهمية بالغة تسلط الضوء على الأحداث المأساوية التي يشهدها الفلسطينيون في غزة على يد (الجيش الإسرائيلي) منذ 7 أكتوبر 2023، مشيرةً إلى توقعات بمزيد من الدمار والخسائر البشرية. يُقدّم الطلب دليلاً قاطعاً يبرهن على نية (إسرائيل) في تنفيذ الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، مدعماً بتصريحات موثقة بعناية من القادة الإسرائيليين، تُعبر عن نبرة مماثلة للتي استخدمها النازيون تجاه اليهود.

 

تتعمق الوثيقة في تحليلها للصراع، موضحة كيف أن السلوك الإسرائيلي في غزة يمثل امتداداً لمعاملتها القاسية للفلسطينيين على مر السنين، مدعمة ذلك بإحالات على تقارير الأمم المتحدة. تكشف الوثيقة بوضوح عن أن الأعمال التي قام بها الإسرائيليون في غزة منذ 7 أكتوبر تمثل تصعيداً للسياسات التي سبقت هذا التاريخ.

 

وعلى الرغم من نشر العديد من هذه الحقائق في وسائل الإعلام، فإن أهمية الطلب تكمن في تجميعه لكافة هذه الحقائق في وثيقة واحدة، مقدماً رؤية شاملة ومدعمة حول الإبادة الجماعية (الإسرائيلية) بحق الشعب الفلسطيني في غزه، مع الاهتمام بأدق التفاصيل.

 

وفي مواجهة هذه الاتهامات، ترد حكومة (إسرائيل) بوصفها “افتراءات لا أساس لها” متهمة جنوب أفريقيا بالتعاون مع جماعات إرهابية. ومع ذلك، يكشف التحليل الدقيق للوثيقة عن عدم وجود أساس لهذه الادعاءات. وتبدو الصعوبات التي تواجهها (إسرائيل) في الدفاع عن موقفها بطريقة منطقية وقانونية جلية عند بدء الإجراءات القضائية، إذ يصعب تجاهل أو دحض الحقائق الواضحة والموثقة.

 

أود أن أسلط الضوء على بعض النقاط الإضافية بخصوص الادعاءات المقدمة من جنوب أفريقيا. تُبرز الوثيقة بوضوح التمييز بين الإبادة الجماعية وغيرها من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، مؤكدةً على الرابط الدقيق بين هذه الأفعال. فمثلا، يُعدُّ استهداف السكان المدنيين في سياق الحرب – كما حدث في القصف البريطاني والأمريكي للمدن الألمانية واليابانية خلال الحرب العالمية الثانية – جريمة حرب، ولكن لا ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، حيث لم تكن هناك نية لإبادة جزء كبير أو الكل من سكان تلك الدول.

 

تسلط الوثيقة الضوء كذلك على أن التطهير العرقي الذي يتخذ من العنف وسيلة انتقائية يُصنف كجريمة حرب، ولكن لا يعد إبادة جماعية، حسب توصيف عمر بارتوف، الخبير في المحرقة النازية والمولود في إسرائيل، الذي يعدها “جريمة الجرائم”. وعلى الرغم من أنني كنت أعتقد في بادئ الأمر أن (إسرائيل) مرتكبة لجرائم حرب خطيرة وليست إبادة جماعية خلال الشهرين الأولين من الحرب، إلا أن الأدلة المتزايدة على نية الإبادة الجماعية باتت جلية من جانب القادة (الإسرائيليين). وقد أصبح واضحاً بعد انتهاء الهدنة في نهاية نوفمبر 2023 وعودة (الجيش الإسرائيلي) إلى العمليات العسكرية أن الهدف كان التدمير الجسدي لجزء مهم من سكان غزة الفلسطينيين.

 

للمضي قدماً في تحليل الادعاءات المقدمة من جنوب أفريقيا، يلزم التنويه بأن التركيز الرئيس على (إسرائيل) ينطوي على تبعات واسعة النطاق تمتد إلى الولايات المتحدة، وتحديداً إلى الرئيس جو بايدن وكبار معاونيه. ويعود ذلك إلى الشبهات المتزايدة حول تورط إدارة بايدن في الدعم المباشر أو غير المباشر لما يُوصف بالإبادة الجماعية التي تنفذها (إسرائيل)، وهي جريمة تُعاقِب عليها اتفاقية الإبادة الجماعية. على الرغم من تصريحات الرئيس بايدن المعترفة بممارسات (إسرائيل) العسكرية العشوائية، فإنه أكد عزمه على دعم (إسرائيل) بأي وسيلة، بما في ذلك تجاوز الإجراءات البرلمانية لتسريع تسليم الأسلحة.

 

ما يُثير القلق هو أن مثل هذه الممارسات تضع اسم الرئيس بايدن وسمعة الولايات المتحدة في مواجهة اتهامات بالتواطؤ في فعل يُعدُّ من أشد جرائم الحرب خطورةً. وهذا يرسم صورة لأميركا قد تُحفر في ذاكرة التاريخ كشريك في واحدة من أبرز حالات الإبادة الجماعية المحتملة، مما يفرض بصمة لا تمحى على تاريخ البلاد السياسي والأخلاقي.

 

لقد كان خارج تصوري تماماً أن أشهد اليوم الذي تواجه فيه (إسرائيل) التي تضم العديد من ناجي المحرقة وذريتهم تهمة بالغة الخطورة تتمثل في ارتكاب الإبادة الجماعية. بصرف النظر عن كيفية تطور هذه القضية داخل أروقة محكمة العدل الدولية – وأنا هنا على وعي تام بالاستراتيجيات التي قد تستخدمها كل من الولايات المتحدة (وإسرائيل) لتجنب محاكمة عادلة – من المرجح أن تكون (إسرائيل) في المستقبل محط تركيز كونها المسؤول الأول عن أحد أبرز الأمثلة على الإبادة الجماعية.

 

تشير وثيقة جنوب أفريقيا إلى أن الإبادة الجماعية التي تقودها (إسرائيل) لا تبدو أن لها نهاية قريبة، ما لم تتدخل محكمة العدل الدولية بشكل حاسم. تقوم الوثيقة بالإشارة مرتين إلى تصريحات صريحة من بنيامين نتنياهو في 25 ديسمبر 2023، التي تعكس استمرارية وتصعيد العمليات العسكرية، مما يشير إلى أن النزاع سيطول ولم يقترب من نهايته بعد. وعلى الرغم من آمالنا في أن تتمكن جنوب أفريقيا ومحكمة العدل الدولية من وضع حد للقتال، إلا أن الواقع يُظهر أن سلطة المحاكم الدولية في التأثير على دول بحجم (إسرائيل) والولايات المتحدة تظل محدودة للغاية.

 

يُلفت النظر أن الولايات المتحدة، بصفتها ديمقراطية ليبرالية، تحتضن نخبة من المثقفين والمحررين الصحفيين والمسؤولين السياسيين والمحللين والعلماء، الذين يعلنون باستمرار عن التزامهم الراسخ بحماية حقوق الإنسان عالمياً. هؤلاء الأفراد عادة ما يعبرون عن مواقفهم بقوة ووضوح في مواجهة جرائم الحرب، خاصةً عندما تكون الولايات المتحدة أو حلفاؤها طرفاً في الأمر. ومع ذلك، في مواجهة الإبادة الجماعية (الإسرائيلية) بحق المدنيين في قطاع غزة، بدا هذا الجزء من النخبة الليبرالية متحفظاً بشكل ملحوظ حيث قلما تطرقوا للتصرفات (الإسرائيلية العنيفة في غزة أو لخطاب الإبادة الذي تبناه قادتها. نأمل أن يأتي الوقت الذي يُفسرون فيه هذا الصمت اللافت. مهما كانت الأسباب فإن التاريخ لن ينظر برحمة إلى هؤلاء الذين ظلوا صامتين بينما كانت بلادهم شريكة في جريمة بشعة تم ارتكابها على مرأى ومسمع من العالم أجمع.

المزيد من المشاركات
اترك تعليقا