نتائج وتداعيات «طوفان الأقصى» على الأمن القوميّ العراقيّ والمنطقة

محمّد صادق الهاشميّ

المقدّمة :
إنّ تحليل تأثير «طوفان الأقصى» على العراق والمنطقة يعكس تداخل الأحداث الإقليمية والدولية وتأثيرها المباشر على الأمن القومي العراقيّ.
ويمكن تلخيص التأثيرات الرئيسية باختلال التوازن في الصراع ونتائجه، وينعكس ذلك على آثار الأمن القوميّ العراقيّ وفق التالي:
أظهر « «طوفان الأقصى» » ضعف قوّة الردع الإسرائيلية ، وأكّد أنّ الحسابات الإسرائيلية لم تكن مدروسةً بشكلٍ وافٍ .
والنتائج المترتبة على هذا الضعف يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1. انهيار أيديولوجية التطبيع:
أدركت القوى والدول التي كانت تعتمدُ على التطبيع مع إسرائيل كاستراتيجية حمايةٍ لها أنّ هذه الحسابات كانت خياليةً لا واقع ، خاصَّة بعد « «طوفان الأقصى»» و«الوعد الصادق » ، وسيطرة المقاومة على المنافذ الدولية، بالإضافة إلى الحرب الأوكرانية الروسية ، والهزائم الأمريكية في لبنان وفلسطين.
الدول العربية التي كانت تتجه نحو التطبيع قد تضطر لإعادة النظر في سياساتها، والبحث عن مواقع لها في المتغيِّرات الدولية القادمة، سواء أكان بالتوجه نحو الحياد أم البحث عن تحالفات جديدة.
من المهمّ معرفة أنّ التطبيع ليس فقط اعترافًا بإسرائيل ، بل هو جزء من استراتيجيةٍ أمريكيةٍ لتأسيس منظومةٍ خليجيةٍ تحت حمايةٍ وإشرافٍ أمريكيّ لمواجهة القوى الصاعدة في المنطقة : (المحور الثوريّ – إيران، سوريا، اليمن، لبنان، غَزَّة).
أمام عدم قدرة أمريكا وأوروبا على حسم المعركة ضدّ حماس، قد تتجه دول الخليج إلى سياسات الحياد أو التوازن، وعدم الاستعجال في التطبيع، أو تنسيق العلاقات مع المحور الشرقيّ (الصين، روسيا، إيران) ، ودول منظمة « بريكس وشنغهاي » إلى جانب القطب الأمريكيّ.
العراق، كجزءٍ من منظومة الشرق، يمكنه أنْ يتبع مسار التوازن في النظام الدوليّ الجديد لتحقيق أمنه القوميّ. هذه الرؤية تعكس تعقيد التفاعلات الإقليمية والدولية وتأثيرها على الأمن القوميّ للدول. من الضروري أنْ يستمرَّ العراق في متابعة هذه التطوّرات ، وصياغة سياساته بما يحقق مصالحه الوطنية ، ويحافظ على استقراره وأمنه.
2. ظهور محور المقاومة:
كأمرٍ واقعٍ بعد «طوفان الأقصى» يؤكِّد على التحوّلات الجيوسياسية في المنطقة. ويمكن تلخيص التأثيرات والتوجّهات المستقبلية بما يلي:
(أ). قوّة محور المقاومة:
بعد «طوفان الأقصى» ، أظهرت القوى المقاومة قدراتها في الصمود والمناورة، والتأثير على إسرائيل. هذا يعزز من توازن القوى في المنطقة، خاصّة في الخليج والشام وعموم غرب آسيا، ويؤكِّدُ أنّ محور المقاومة يمتلك القدرةَ على إعادة تشكيل النظام الدوليّ.
(بـ). العراق في المنظومة الإقليمية والدولية:
العراق، كجزءٍ من هذه المنظومة، يجدُ نفسه أمام واقعٍ جديدٍ يتطلَّبُ منه تحديد موقفه واتجاهه في النظام الدوليّ المتشكّل. يجب على العراق أنْ يوازن بين التحالفات الإقليمية والدولية ليضمن مصالحه الوطنية.
(ج). الاتجاه نحو القطبية الثنائية:
النظام الدوليّ يتجه نحو قطبيةٍ ثنائيِّةٍ جديدةٍ، مع تزايد النفوذ الشرقيّ (الصين، روسيا، إيران) إلى جانب القوى التقليدية الغربية (الولايات المتحدة وأوروبا). وفي هذا السياق، يجب على العراق أنْ يحدد موقعه واستراتيجيته بوضوح.
(د). التوازن والوسطية:
رغم ظروف العراق الخاصَّة، يمكن للعراق أنْ يتبنى موقف الوسطية والتوازن. وهذا يتطلّب منه التعامل بحذرٍ مع التحالفات الدولية، وتبنّي سياسات متوازنة تضمن استقراره وأمنه القوميّ.
بالتالي، يمكن للعراق أنْ يستفيد من هذه التحوّلات باتباع استراتيجيةٍ واضحةٍ تحفظ مصالحه ، وتجعله لاعبًا فاعلاً في المنطقة. والتحدي يكمن في كيفية تحقيق هذا التوازن وسط التغيّرات السريعة في النظام الدولي.
3. ظهور حاكمية التموضع السياسي :
يمكن تلخيص النقاط الرئيسية التي يحتاج العراق إلى التركيز عليها لتعزيز أمنه القوميّ كما يلي:
أوّلاً: استثمار ضعف الكيان الصهيونيّ ، وغرق أمريكا في أوحال ، وهذا يشّكل ورقة ضغط على أمريكا فالعراق يمكنه استغلال ضعف الكيان الصهيونيّ على الساحة الدولية ، وكذلك انشغال أمريكا بصراعاتها الخارجية، ليكون لديه ورقة ضغط في التفاوض مع أمريكا. والهدف هو الانتقال من مرحلة الاعتماد على القواعد العسكرية الأمريكية إلى إقامة علاقات سياسية قائمة على المصالح المشتركة والسيادة الوطنية. وهذا يتطلب دبلوماسية قوّية ، واستراتيجية تفاوض محكمة ؛ لتحقيق استقلالية أكبر في القرار الوطني.
ثانياً: تشكيل نظرية المحور في النظام العربي: فالعراق يمتلك مؤهّلات كبيرة تمكّنه من فرض دوره في النظام العربيّ والخليجيّ، بما في ذلك مجلس التعاون الخليجيّ. ويمكنه استثمار موارده الاقتصادية الكبيرة، وثرواته الطبيعية، وقواه الأمنية لتعزيز مكانته. هذا يشمل:
(أ). تعزيز الاقتصاد:
إنّ الاستثمار في مشاريع تنموية واقتصادية تعزز من استقلالية العراق ، وتجعله شريكًا اقتصاديًا رئيسيًا في المنطقة.
(ب). تعزيز القوى الأمنية:
تطوير القدرات الأمنية والدفاعية للحفاظ على الاستقرار الداخليّ وحماية المصالح الوطنية.
(ج) . دور دبلوماسيّ فعّال:
تبنّي دور دبلوماسيّ فعّال في القضايا الإقليمية، والعمل على حلّ النزاعات وتعزيز التعاون الإقليمي.
بتبني هذه الاستراتيجيات، يمكن للعراق أنْ يحقق توازنًا بين القوى الدولية والإقليمية، ويضمن أمنه القوميّ واستقراره في ظلّ التغيّرات الجيوسياسية العالمية. والتحدي الأكبر يكمن في التنفيذ العمليّ لهذه الاستراتيجيات ، وتحقيق التوازن المطلوب في السياسة الخارجية
4. حرب المنافذ :
التأثيرات الكبيرة ل«طوفان الأقصى» وما تلاه من تغييرات في الجغرافيا السياسية والاقتصادية تُظهر أهمّية دور المنافذ الدولية ، وتأثيرها على النظام الدوليّ. وإنّما تكون ذلك بعد فهم ما يلي:
(أ). حرب المنافذ والسيطرة على البحر الأحمر والبحر المتوسّط:
فإنّ سيطرة « أنصار الله » في اليمن أو تأثيرهم على باب المندب وتقليص أهمّية قناة السويس يشير إلى تغييراتٍ كبيرةٍ في النقل البحريّ الدوليّ. وهذه السيطرة تُمكّن محور المقاومة في العراق وغيره من التحكّم في جزءٍ كبيرٍ من التجارة الدولية وإمدادات الطاقة، ممّا يعزز موقفه الجيوسياسيّ.
(بـ ) . أهمّية المنافذ الدولية:
نظرًا لأنّ 40% من واردات الطاقة العالمية تنتج في مناطق تابعة لمحور المقاومة ، وتمرّ عبر هذه المنافذ، فإنّ هذا يعطي المحور بما فيه العراق قوّةً تفاوضيةً كبيرةً في إعادة تشكيل النظام الدوليّ ، وتوازن القوى الإقليميّ والدوليّ.
(ج) . تغيير بنية الأمن الإقليميّ والدوليّ:
هذه التغيّرات تؤدّي إلى إعادة صياغة بنية الأمن الإقليميّ والدوليّ لصالح محور المقاومة، ممّا يُتيح الفرصة لتأسيس نظام دوليّ جديد يتميّز بقطبية ثنائية.
(د) . تعزيز مكانة العراق:
ويمكن للعراق الاستفادة من هذه التغييرات ليصبح لاعبًا رئيسيًا في النظام الدولي الجديد. يجب عليه استخدام موارده الاقتصادية والأمنية وموقعه الجغرافيّ بشكلٍ استراتيجي لضمان دوره الفاعل في المنطقة.
5. تأمين الأمن القومي:
إنّ تعزيز دور العراق في النظام الدوليّ يتطلّب استراتيجيةً واضحةً تستند إلى تأمين الأمن القوميّ ، والاستقلالية في القرارات السياسية والاقتصادية.
وإليك النقاط الأساسية لتحقيق هذا الهدف:
1 .تفعيل الدور الدولي:
(أ). التعاون الإقليميّ والدوليّ:
إنّ تعزيز التعاون مع الدول المحورية في محور المقاومة، وكذلك مع القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا سيساعد العراق في تحقيقِ توازنٍ استراتيجيٍّ يمكّنه من مواجهة التحديات الدولية والمحلية.
(بـ). المشاركة في المنظمات الدولية:
إنّ زيادة المشاركة الفعَّالة في المنظمات الدولية والإقليمية سيعزيز دور العراق وصوته في الساحة العالمية.
2. تحقيق الاستقلالية السياسية والاقتصادية:
(ا). تنويع الاقتصاد:
إنّ تنويع مصادر الدخل القوميّ ، وتطوير القطّاعات غير النفطية لضمان استقلالية الاقتصاد العراقيّ ، وتقليص الاعتماد على موارده النفطيّة ، وهذا يشمل تطوير الزراعة، الصناعة، والخدمات.
(بـ) . استثمار الموارد الطبيعية:
إنّ الاستثمار الأمثل في الثروات الطبيعية والموارد الاقتصادية سيعزز الاستقلالية الاقتصادية وزيادة الدخل الوطنيّ.
3. تحقيق التوازن في العلاقات الدولية:
(أ). العلاقات المتوازنة مع القوى الكبرى:
إنّ الحفاظ على علاقاتٍ متوازنةٍ مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة، الصين، روسيا، والاتحاد الأوروبي سيمكّن العراق من الاستفادة من جميع الأطراف دون الانحياز لطرف معيّن.
(بـ ) . الاعتماد على المصالح الوطنية:
ضرورة تبنّي سياساتٍ تعتمد على المصالح الوطنية العراقية أوّلاً، وضمان أنْ تكون كلّ القرارات السياسية والاقتصادية موجّهة نحو تعزيز الاستقلالية والسيادة الوطنية.
4. تعزيز الأمن القوميّ:
(أ). تطوير القدرات الدفاعية والأمنية:
ضرورة تقوية القدرات الدفاعية والأمنية لضمان الاستقرار الداخليّ وحماية الحدود. هذا يشمل تحديث الجيش والحشد الشعبيّ ، والقوى الأمنية الأخرى ، وتطوير استراتيجيات لمواجهة التحديات الأمنية.
(بـ ) . السياسات الأمنية الفعالة:
من الضروري جدّاً تبني سياسات أمنية فعّالة تتضمن التعاون الإقليميّ لمكافحة الإرهاب ، والتصدّي للتحديات الأمنية المشتركة.
بتبني هذه الاستراتيجيات، يمكن للعراق أنْ يعزز دوره في النظام الدولي الجديد، ويحقق استقلالية أكبر في قراراته السياسية والاقتصادية، ممّا يضمن استقرار وأمنه القوميّ ، ويعزز موقعه الإقليميّ والدوليّ.
النتائج :
بعد «طوفان الأقصى» تتجلّى النتائج التالية :
النتيجة الأولى:
ارخاء القبضة الإسرائيلية الأمريكية على المنطقة ، وبهذا فانّ العراق يمتلك ورقة ضغط قويّة في المفاوضات الأمريكية العراقية ، ويمتلك ما يلي :
(أ) . تطوير قدراته الأمنية والسياسية .
(بـ) تعميق علاقاته وفق مصالحه القومية ؛ فإنّ الصراع الحالي ، وارخاء قبضة امريكا والكيان الصهيونيّ يمكّنه من حرية نوعية في اختيار علاقاته الإقليمية والدولية .
(ج) . توحيد الرؤية السياسية الداخلية استعداداً للدخول إلى العالم الجديد . وكما قلنا فإنّ العراق أصبح محوراً مهمًّا في السياسة العربية ، وفي محور المقاومة ، وفي خلق التوازنات ، وفي الجغرافية التجارية والاقتصادية .
النتيجة الثانية : الطريق التنمويّ في العراق :
في العراق يمكن أنْ يتأثّر بالتنافس الجيوسياسيّ بين القوى الكبرى، خاصّة فيما يتعلّق بمسارات الملاحة الدولية.
وإليك النقاط الرئيسية لتحليل هذا التأثير ، وكيف يمكن للعراق التوازن بين هذه القوى:
1. تأثير أمريكا وإسرائيل على طريق التنمية:
(أ). تغيير مسارات الملاحة الدولية:
إنّ الولايات المتحدة وإسرائيل قد تسعيان إلى تغيير مسارات الملاحة الدولية لضمان تأمين خطّ الملاحة نحو إسرائيل، ممّا قد يؤثّر على الخطط التنموية في العراق.
(بـ ) . ربط طريق التنمية بأمريكا:
في حال أصرّت أمريكا على ربط طريق التنمية بها بعيدًا عن المسار الإيرانيّ – الروسيّ الصيني من خلال تفعيل خطّ (الهند – بحر العرب – الإمارات – السعودية – إسرائيل)، فإنّ العراق قد يجد نفسه تحت ضغط أمريكيّ لتبنّي هذا المسار.
2. الفرص والتهديدات:
(أ) . الضغط الأمريكي:
يمكن أنْ يتعرض طريق التنمية لضغوط أمريكية لضمان تحقيق مصالحها الجيوسياسية، ممّا قد يؤثّر على استقلالية العراق في اتخاذ قراراته التنموية.
(بـ ) . التحالف الروسيّ الصيني الإيراني:
في مقابل الضغط الأمريكيّ المحتمل يمكن للعراق أنْ يستفيد من التحالف مع روسيا، والصين، وإيران لتحقيق مصالحه الوطنية ، وتعزيز استقلالية قراراته الاقتصادية والتنموية.
3. التوازن بين القوى الكبرى:
(أ) . التوازن بين المحاور:
يمكن للعراق أنْ يسعى لتحقيق توازن بين المحاور المختلفة، بحيث يستفيد من الفرص المتاحة دون الانحياز لطرف معيّن وهذا يتطلّب دبلوماسية ذكية حريصةٍ على مصالح العراق ، وبحاجةٍ إلى استراتيجيةٍ واضحةٍ لضمان الاستفادة من الدعم الدوليّ دون الوقوع تحت تأثير ضغوط القوى الكبرى.
(بـ ). التعاون الإقليمي والدولي:
إنّ تعزيز التعاون مع الدول المحورية في كلّ محور، سواءً أكان المحور الأمريكيّ أم المحور الروسيّ الصينيّ الإيرانيّ، سيحقق توازنا يضمن مصالح العراق.
4. الاستراتيجيات المقترحة:
(ا). تعزيز الاستقلالية التنموية:
التركيز على تعزيز البنية التحتية الداخلية ، وتطوير القدرات البشريّة والاقتصادية الذاتية لضمان تقليل الاعتماد على القوى الخارجية.
(بـ) . تنويع الشراكات الدولية:
تنويع الشراكات الدولية ، وعدم الاعتماد على طرفٍ واحدٍ، ممّا يتيح للعراق مرونةً أكبر في التعامل مع الضغوط الدولية.
التوصيات:
1. العراق بحاجة إلى نظام مصرفيّ يضمن تدفق الأموال من البنوك الأمريكية بعيداً عن المصارف الخاضعة للعقوبات.
2. يجب على العراق تعميق العلاقات مع دول الخليج وإيران والمنطقة من خلال اتفاقيات تضمن رؤيةً موحّدةً إلى حدٍ مّا.
3. يحتاج العراق إلى تنسيق واستيعاب التباين في المواقف السياسية (بين المكوّنات السنّية والكردية وحتى الشيعية)، والعسكرية (الفصائل) تجاه العلاقات مع الولايات المتحدة.
4. العراق بحاجة إلى التنويعٍ الاقتصاديّ .
5. العراق بحاجة إلى دراسات معمّقة لتحديد موقعه ضمن الخطوط الدولية القادمة من آسيا إلى أوروبا.
نسأل الله أنْ يمُنّ على البلد بالخير والعطاء ، ويحفظه من كلّ يد صفراء تمتدّ إليه بسوء ، بحقِّ محمّد وأهل بيته الطاهرين .

المزيد من المشاركات
اترك تعليقا