الاستبداد التنافسي في الولايات المتحدة
علاء عبد الرزاق

ملامح تغيير في النظام السياسي الأمريكي
علاء عبد الرزاق
شهدت الساحة السياسية الامريكية ومنذ انتخاب الرئيس دونالد ترامب لأول مرة في العام 2016 دفاعا مستميتاً عن قيم النظام الديمقراطي اذ عد وجوده بمثابة تهديد لقيم الانتقال السلس والسلمي للسلطة في حين كانت هذه المخاوف قد تبددت مع وصوله الثاني للسلطة في تشرين الثاني من العام 2024 ولم يعد هنالك مبرر لمثل هذا القلق المتنامي على مستقبل الديمقراطية الامريكية.
كان هنالك ما يبرر مثل هذه المخاوف ولا سيما بعد ان ساهمت جملة من المؤشرات على التأكيد على ان الولايات المتحدة قد انحدرت لمستويات منخفضة بمجال الحرية العالمي السنوي اذ أصبحت اقل من الارجنتين ومتعادلة مع كل من رومانيا وبنما.
لقد انتهك ترامب الضوابط الدستورية التي كانت على الدوام ميزة للديمقراطية الامريكية وذلك عندما حاول قلب نتائج الانتخابات ومنع انتقال السلطة سلمياً ومع ذلك فلم يقم الكونغرس والا القضاء الأمريكي العتيد بمحاسبته بل قام الحزب الجمهوري بإعادة ترشيحه لمنصب الرئيس ولقد خاض ترامب حملة استبدادية صريحة في العام 2024 قامت على ملاحقة منافسيه ومعاقبة وسائل الاعلام التي انتقدت تصرفاته واساليبه ومنها نشر الجيش لقمع الاحتجاجات ولم يكن فوزه الا بقرار استثنائي من المحكمة العليا وهو الامر الذي سوف يجعله متمتعاً بحصانة واسعة النطاق طيلة مدة رئاسته.
هنالك تساؤل أساسي يطرح في هذا المجال الا هو لِم لم يتمكن ترامب في حقبة رئاسته الأولى من فرض رؤاه الشمولية على السياسة الامريكية والواقع ان الديمقراطية الامريكية قد نجت من بطش الديكتاتورية الترامبية لإنه ببساطة لم يكن يملك خبرة كافية ولا فريق عمل متكامل اذ سرعان ما بدا فريقه الوزاري بالاستقالة تباعاً كما ان معظم قادة الحزب الجمهوري كانوا ملتزمين بقواعد اللعبة الديمقراطية وبالتالي تم تقييد حركة ترامب في الفترة الأولى في الوقت الذي بدا فيه بعد حملته الانتخابية وفوزه بالترشح عن الحزب الجمهوري بالتخلص من القوى والشخصيات المناهضة والمعارضة لتوجهه حتى غدا الحزب الجمهوري مستسلماً لتوجهاته الاستبدادية.
هنالك تخمينات لا تخلو من دقة ومبرر ترى ان الديمقراطية الامريكية مرشحة للانهيار في الفترة الرئاسية الحالية لترامب اذ انها سوف تتوقف عن تلبية المعايير القياسية للديمقراطية الليبرالية ومن بينها حق الاقتراع الكامل للبالغين والانتخابات الحرة النزيهة والحماية الواسعة للحريات المدنية، ولكن لابد من التذكير بحقيقة أساسية الا وهي ان انهيار الديمقراطية في الولايات المتحدة سوف لن يؤدي البتة لظهور ديكتاتورية كلاسيكية سوف تكون هنالك انتخابات ولكنها سوف تكون بمثابة خدعة واما المعارضة فقد تواجه مخاطر الاعتقال والسجن وحتى شمن اسوا السيناريوهات لن يتمكن ترامب من إعادة كتابة الدستور او الغاء النظام الدستوري وسوف يكون مقيداً بالقضاة المستقلين ومؤسسات النظام الاتحادي والمؤسسة العسكرية وجملة من المعوقات امام أي تغيير او تعديل في الدستور ولذلك فان احتمالية فوز الجمهوريين في العام 2028 تبدو مستحيلة لحد كبير.
ان الاستبداد الذي يمكن ان يمارسه الرئيس الأمريكي لا يستدعي الإطاحة بالنظام الدستوري فما ينتظر الشعب الأمريكي ليس الديكتاتورية الفاشية او النظام الحزبي الواحد بل نظام الاستبداد التنافسي وهو النظام الذي تتنافس فيه الأحزاب في الانتخابات ولكن إساءة استخدام السلطة من جانب الرئيس الحالي تعمل على إمالة الملعب ضد المعارضة. وتندرج أغلب الأنظمة الاستبدادية التي نشأت منذ نهاية الحرب الباردة ضمن هذه الفئة، بما في ذلك بيرو في عهد ألبرتو فوجيموري، وفنزويلا في عهد هوجو شافيز، والسلفادور والمجر والهند وتونس وتركيا المعاصرة.
وفي ظل الاستبداد التنافسي، تظل البنية الرسمية للديمقراطية، بما في ذلك الانتخابات التعددية الحزبية، على حالها. والواقع أن قوى المعارضة قانونية وعلنية، وهي تناضل بجدية من أجل السلطة. وكثيراً ما تكون الانتخابات معارك محتدمة يضطر فيها الرئيس الحالي إلى بذل الجهد والعرق. ولكن من حين لآخر، يخسر القائمون على السلطة، كما حدث في ماليزيا في عام 2018 وفي بولندا في عام 2023. ولكن النظام ليس ديمقراطيا، لأن القائمين على السلطة يتلاعبون باللعبة من خلال نشر آلية الحكومة لمهاجمة المعارضين واستقطاب المنتقدين. المنافسة حقيقية ولكنها غير عادلة.
إن الاستبداد التنافسي سوف يحول الحياة السياسية في الولايات المتحدة. وكما أوضحت موجة الأوامر التنفيذية المشكوك في دستوريتها التي أصدرها ترامب في وقت مبكر، فإن تكلفة المعارضة العامة سوف ترتفع بشكل كبير: فقد تستهدف مصلحة الضرائب المانحين للحزب الديمقراطي؛ وقد تواجه الشركات التي تمول جماعات الحقوق المدنية تدقيقا ضريبيا وقانونيا متزايدا أو تجد مشاريعها متعثرة من قبل الجهات التنظيمية. ومن المرجح أن تواجه وسائل الإعلام الناقدة دعاوى تشهير باهظة التكلفة أو إجراءات قانونية أخرى فضلا عن سياسات انتقامية ضد شركاتها الأم. وسوف يظل الأميركيون قادرين على معارضة الحكومة، ولكن المعارضة ستكون أكثر صعوبة وخطورة، مما يؤدي إلى تفاقم المنافسة.
وبطبيعة الحال فان عددا كبيرا من النخب المثقفة وكذلك المواطنين قد قرروا بان معارضة الحكومة قد لا تستحق كل هذا العناء ولكن الفشل في مقاومة الاستبدادية قد يمهد الطريق لنشوء نظام شمولي مع وجود عواقب وخيمة على الديمقراطية في أكثر من مكان في العالم.
إن إدارة ترامب الثانية قد تنتهك الحريات المدنية الأساسية بسبل تقوض الديمقراطية بشكل لا شك فيه. فعلى سبيل المثال، قد يأمر الرئيس الجيش بإطلاق النار على المتظاهرين، كما ورد أنه أراد أن يفعل اثناء حقبة ولايته الأولى. وقد يفي أيضًا بوعده الانتخابي بإطلاق “أكبر عملية ترحيل في تاريخ أمريكا”، مستهدفًا ملايين الأشخاص في عملية مليئة بالانتهاكات والتي من شأنها أن تؤدي حتماً إلى احتجاز الآلاف من المواطنين الأمريكيين عن طريق الخطأ.
ولكن الكثير من الاستبداد القادم سوف يتخذ شكلًا أقل وضوحًا: تسييس وتسليح البيروقراطية الحكومية. الدول الحديثة كيانات قوية. توظف الحكومة الفيدرالية الأمريكية أكثر من مليوني شخص ولديها ميزانية سنوية تبلغ حوالي 7 تريليون دولار. يعمل المسؤولون الحكوميون كحكام مهمين للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن السلطات تساعد في تحديد من يتم مقاضاته بتهمة ارتكاب جرائم، ومن يتم تدقيق ضرائبه، ومتى وكيف يتم تطبيق القواعد واللوائح، وأي المنظمات تحصل على وضع الإعفاء الضريبي، وأي الوكالات الخاصة تحصل على عقود لاعتماد الجامعات، وأي الشركات تحصل على تراخيص حاسمة، وامتيازات، وعقود، وإعانات، وإعفاءات من التعريفات الجمركية، وعمليات الإنقاذ. وحتى في بلدان مثل الولايات المتحدة التي لديها حكومات صغيرة نسبيا، فإن هذه السلطة تخلق وفرة من الفرص للقادة لمكافأة الحلفاء ومعاقبة المعارضين. لا توجد ديمقراطية خالية تماما من مثل هذا التسييس. ولكن عندما تستخدم الحكومات الدولة كسلاح باستخدام قوتها لإضعاف المعارضة وإضعافها بشكل منهجي، فإنها تقوض الديمقراطية الليبرالية. تصبح السياسة أشبه بمباراة كرة قدم حيث يعمل الحكام وحراس الملعب ومراقبو النتائج لصالح فريق واحد لتخريب منافسه. وهذا هو السبب في أن جميع الديمقراطيات الراسخة لديها مجموعات معقدة من القوانين والقواعد والمعايير لمنع تسليح الدولة. وتشمل هذه الهيئات القضائية المستقلة، والبنوك المركزية، وسلطات الانتخابات، والخدمات المدنية مع حماية التوظيف. في الولايات المتحدة، أنشأ قانون بيندلتون لعام 1883
وهو قانون اقر في عهد الرئيس تيستر ارثر واقترحه أصلا السيناتور جورج بيندلتون من ولاية اوهايو ويقوم على توزيع المناصب طبقا لمبدأ الكفاءة والاستحقاق الوظيفي بدلا من نظام الولاء الحزبي والغنائم والذي كان معمولاً به حتى تشريع هذا القانون.
وبالتالي أضحت الخدمة المدنية مهنية حيث يتم التوظيف على أساس الجدارة. ويُحظر على العاملين الفيدراليين المشاركة في الحملات السياسية ولا يمكن فصلهم أو خفض رتبهم لأسباب سياسية. تتمتع الغالبية العظمى من أكثر من مليوني موظف فيدرالي بحماية الخدمة المدنية منذ فترة طويلة. في بداية فترة ولاية ترامب الثانية، كان حوالي 4000 منهم فقط معينين سياسيا.
يمكن القول ان الولايات المتحدة تتجه لنوع من الاستبداد يصح تسميته بالاستبداد التنافسي والذي لا يمكن ان يقارب ديكتاتورية الحزب الواحد بأي شكل من الاشكال فلقد طورت الولايات المتحدة جملة من القواعد والمعايير التي أدت لمنع تسيس المؤسسات الحكومية الرئيسة وتتضمن هذه القواعد تأكيد وقبول مجلس الشيوخ بالمرشحين الرئاسيين وتعيين قضاة المحكمة العليا وضمان استمرارية رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي وتولي مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي منصبه لمدة عشر سنوات وخمس سنوات لمدير مصلحة الضرائب، وضمان ان تتمتع المؤسسة العسكرية الامريكية بالحيادية وبطبقة واسعة من القوانين التي تحكم تعيين وترقية وإقالة الضباط العسكريين بقدر من المهنية والاحترافية العالية
وعلى الرغم من أن وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي ومصلحة الضرائب ظلت مسيسة إلى حد ما خلال سبعينيات القرن العشرين، إلا أن سلسلة من الإصلاحات التي أعقبت فضيحة ووترجيت أنهت فعليا تسليح هذه المؤسسات حزبيا.
غالبا ما يلعب الموظفون المدنيون المحترفون دورا حاسما في مقاومة جهود الحكومة لتعبئة وكالات الدولة بالموالين لقد عملوا كخط دفاع أمامي للديمقراطية في السنوات الأخيرة في البرازيل والهند و(إسرائيل) والمكسيك وبولندا، وكذلك في الولايات المتحدة خلال إدارة ترامب الأولى. لهذا السبب، كانت إحدى الخطوات الأولى التي اتخذها المستبدون المنتخبون مثل نايب بوكيلي في السلفادور، وتشافيز في فنزويلا، وفيكتور أوربان في المجر، وناريندرا مودي في الهند، ورجب طيب أردوغان في تركيا، تطهير الموظفين المدنيين المحترفين من الوكالات العامة المسؤولة عن أشياء مثل التحقيق في المخالفات وملاحقتها، وتنظيم وسائل الإعلام والاقتصاد، والإشراف على الانتخابات – واستبدالهم بالموالين. بعد أن أصبح أوربان رئيسا للوزراء في عام 2010، جردت حكومته الموظفين العموميين من الحماية الرئيسية للخدمة المدنية، وطردت الآلاف، واستبدلتهم بأعضاء مخلصين من حزب فيدس الحاكم. وعلى نحو مماثل، أضعف حزب القانون والعدالة البولندي قوانين الخدمة المدنية من خلال التخلص من عملية التوظيف التنافسية وملء البيروقراطية والقضاء والجيش بحلفاء حزبيين. ولدى ترامب وحلفاؤه خطط مماثلة. فمن ناحية، أحيا ترامب جهوده في فترة ولايته الأولى لإضعاف الخدمة المدنية من خلال إعادة العمل بالجدول “ف”، وهو أمر تنفيذي يسمح للرئيس بإعفاء عشرات الآلاف من موظفي الحكومة من حماية الخدمة المدنية في الوظائف التي تعتبر “سرية، أو تحدد السياسات، أو تصنع السياسات، أو تدافع عن السياسات”. وإذا تم تنفيذ المرسوم، فإنه سيحول عشرات الآلاف من موظفي الخدمة المدنية إلى موظفين “حسب الرغبة” يمكن استبدالهم بسهولة بحلفاء سياسيين. وقد يزيد عدد المعينين الحزبيين، وهو أعلى بالفعل في حكومة الولايات المتحدة مقارنة بأغلب الديمقراطيات الراسخة، بأكثر من عشرة أضعاف. وقد أنفقت مؤسسة هيريتيج وغيرها من الجماعات اليمينية ملايين الدولارات على تجنيد وفحص جيش يصل عدده إلى 54 ألف موالٍ لشغل مناصب حكومية. وقد يكون لهذه التغييرات تأثير مخيف أوسع نطاقا في جميع أنحاء الحكومة، مما يثني المسؤولين العموميين عن استجواب الرئيس. وأخيرا، أدى إعلان ترامب أنه سيطرد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر راي ومدير مصلحة الضرائب داني ويرفيل قبل نهاية ولايتهما إلى استقالتهما، مما مهد الطريق لاستبدالهما بموالين ذوي خبرة قليلة في وكالاتهم. وبمجرد أن تكتظ الوكالات الرئيسية مثل وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي ومصلحة الضرائب بالموالين، يمكن للحكومات استغلالهم لتحقيق ثلاث غايات معادية للديمقراطية: التحقيق وملاحقة المنافسين، واستقطاب المجتمع المدني، وحماية الحلفاء من الملاحقة القضائية.
يمكن القول ان الولايات المتحدة على اعتاب تطبيق نظام الاستبداد التنافسي ولقد بدأت إدارة ترامب في ملأ مؤسسات الدولة بمؤيدين يقفون بالضد من أي اتجاه معارض ولا يمكن الادعاء بان أي دستور في العالم يمكنه ان ينقذ النظام الديمقراطي ، فحتى أفضل الدساتير تصميما تحتوي على غموض وثغرات يمكن استغلالها لأغراض معادية للديمقراطية. ففي نهاية المطاف، سمح نفس النظام الدستوري الذي يدعم الديمقراطية الليبرالية المعاصرة في أميركا بقرن كامل تقريبا من الاستبداد في الجنوب الأمريكي أي القرن الذي تلى نهاية الحرب الاهلية الامريكية، كما سمح بالاحتجاز الجماعي للأميركيين اليابانيين، وتبنى المكارثية. وفي عام 2025، يحكم الولايات المتحدة على المستوى الوطني حزب يتمتع بإرادة وقوة أعظم لاستغلال الغموض الدستوري والقانوني لأغراض استبدادية أكثر من أي وقت مضى في القرنين الماضيين. وسوف يكون ترامب عُرضة للخطر. وسوف تعمل الدعم الشعبي المحدود للإدارة والأخطاء الحتمية التي ترتكبها على انشاء فرص للقوى الديمقراطية ــ في الكونجرس، وفي قاعات المحاكم، وفي صناديق الاقتراع. ولكن المعارضة لا تستطيع الفوز إلا إذا بقيت في اللعبة. فالمعارضة في ظل الاستبداد التنافسي قد تكون مرهقة. إن العديد من منتقدي ترامب، الذين أنهكتهم المضايقات والتهديدات، سوف يميلون إلى التراجع إلى الهامش. ومثل هذا التراجع سيكون محفوفاً بالمخاطر. فعندما يطغى الخوف أو الإرهاق أو الاستقالة على التزام المواطنين بالديمقراطية، يبدأ الاستبداد الناشئ في ترسيخ جذوره وتمتينها.