يقع الاشتباه عادة في توصيف وتقييم الانتخابات الإيرانية على أنها تمثل شكلا من أشكال الصراع بين ايدلوجيتين مختلفتين انقسم على اثرها الشارع الايراني بين جمهور مؤيد للنظام (المحافظون) وجمهور آخر رافض له (الاصلاحيون)
ولا يقف الاشتباه عند هذا الحد بل يتخطاه أحياناً الى سوء التقدير والتجني احيانا .
فالانتخابات هي من أبرز سمات الديمقراطية في ايران، واكثرها تعبيراً عن تحضر هذا البلد وتمسك شعبه بنظامه السياسي وقياداته.
ولأجل ايضاح الصورة بشكل أدق أعرض هنا لبعض التفاصيل المهمة ، التي يمكن اعتمادها في التقييم النهائي لهذه الممارسة (الانتخابات) الديمقراطية الحيوية.
أولاً: -إن فهم تصنيف التوجهات السياسية للاصلاحيين من جهة والمحافظين والاصوليين من جهة أخرى على أنه انقسام مجتمعي أو انقسام ايدلوجي بين رجالات السياسة الايرانية هو فهم خاطئ،
فهذا الانقسام أو لنقل الاصطفاف ناجم اختلاف الرؤى حول بعض القضايا العالقة والملفات الحساسة على الصعيد الداخلي والخارجي.
وهذا التباين في وجهات النظر حاصل حتى بين هذه التيارات نفسها.
ففي كل تيار منها هناك من يذهب أقصى اليمين وآخر الى أقصى الشمال .
كما في حال بعض الاصلاحيين الذين يطالبون علنا باجراء تغييرات جوهرية في هكيلة النظام السياسي للجمهورية الإسلامية في إيران بل ذهب البعض منهم الى المطالبة بالغاء مقام الولي الفقيه من الدستور !
وآخرين اقتصرت رؤيتهم _وهي في أطار الهامش الابداعي لخدمة النظام السياسي الذي ضمنه القانون بالطبع _على إبداء مرونة اكثر مع الغرب،
وإقامة علاقات طبيعية مع الولايات المتحدة ، وغير ذلك مما يتعلق بتحسين الوضع المعيشي ومعالجة الازمات الاقتصادية.
ثانيا:- هناك عدة عوامل مؤثرة في مزاج الناخب الايراني، ولايمكن اعتبار أن التصويت للمرشح الاصلاحي هو تعبير عن تراجع الناخب الايراني في تأييد نظامه السياسي ، أو أن جميع من صوت للمحافظين هو مؤمن بخط الثورة الاسلامية هذا ليس دقيقا.
فالبعد القومي والمناطقي والانطباعات المسبقة عن المرشحين ، وصخب الدعايات و(البروباغاندا) وغير ذلك ، تلعب دورا مهما بحمل الناخب على التصويت لهذا المرشح أو ذاك.
وقد يكون للمواصفات الشخصية التي يحملها المرشح أثر بالغ بجذب الناخبين إليه بعيدا عن انتمائه السياسي.
ثالثاً-إن معظم المرشحين الاصلاحيين وخاصة أولئك الذين تتم المصادقة على ترشيحهم من قبل (مجلس صيانة الدستور) هم من رجالات الثورة والنظام الإسلامي.
فعلى سبيل المثال أن السيد (پزشكيان)
يعد من رجالات الثورة الاسلامية حتى أن الشيخ الرفسنجاني قال عنه في مذكراته
أنه لازال يفكر بعقلية 1979
أي بعقلية الثورة الاسلامية في بواكيرها…
نعم صحيح أن هذا لايعني أن نمط تفكيرهم ورؤيتهم لمشاكل الجمهورية الاسلامية بقيت على حالها،
و أنهم بدأوا يفكرون بديناميكية أكبر للتعاطي مع المجتمع الدولي
وهو أمر حسن ،
ومادة اثراء للنظام الاسلامي
إلا أن تتخطى تلك الرؤى الاطر المرسومة دستوريا وتصبح مصدر تهديد للنظام الاسلامي فذلك أمر مرفوض.
رابعاً- على مايبدو ان الاصلاحيين تداركوا أمرهم وتيقنوا من استحالة إجراء التغييرات الجذرية في النظام الاسلامي مع إدراكهم في الوقت ذاته أن الغرب ومن خلفه الولايات المتحدة لم يعودوا بتلك القوة والقدرة التي يمكن
الركون اليها لتحقيق تطلعاتهم.
بلحاظ صعود قوى الشرق من جهة ، ومن جهة اخرى بلحاظ افتضاح مواقفهم الاجرامية بحق شعوب العالم والشعوب الاسلامية على وجه الخصوص.
كما أن منهجية الاعتماد على القدرات الذاتية لايران التي برع فيها السيد رئيسي (رض) اثبتت موضوعيتها بالاعتماد على القدرات الذاتية للبلد.
ومن جهة صعوبة التفريط بما تحقق من منجزات كبرى على يديه كالانضمام الى منظمة (شنغهاي) ونيل عضوية العضوية في منظمة (بريكس)
كل هذا المنجزات قد تحققت في عهد
رئيس محافظ ولربما يوصف بالمتشدد.
لذا فان هذه المكتسبات المهمة والانفتاح الكبير على المحيط الاقليمي شكلت مورد حرج كبير للاصلاحيين
ولعله هو الذي دفعهم لتقديم مرشح من خلفية ثورية (پزشكيان)
ليكون باعثاً لاطمئنان القيادة العليا الشعب الايراني على أن منهجيتهم قد طرأ عليها تحولات مهمة وباتوا أقرب للمحافظين من ذي قبل وأن بامكانهم تحقيق رؤيتهم
أو بعضا منها في ظل هذا التقارب وفي اطار الالتزام بحدود النظام السياسي.
وقد ثبت بالدليل القاطع وفي أكثر من مناسبة أن الشعب الايراني متمسك بنظامه السياسي وهو مؤمن بآلية التغيير والاصلاحات القانونية،
لكنه يشجب وبشدة اعمال الشغب ومحاولات الالتفاف على القانون والدستور.
ويبدو أن مجئ الاصلاحيين بمرشح قريب من الخط الثوري هو خيار منطقي في ظل هيمنة التيار المحافظ على (البرلمان )(ومجلس الامن القومي)
و(مجلس تشخيص مصلحة النظام)
و(الولي الفقيه ) لاستحالة أن يكون للرئيس دور مؤثر في رسم السياسات الخارجية الكبرى مالم يكن منسجما مع هذه الهيآت الدستورية المهمة.
وعليه يكون ترشيح (پزشكيان) هو الخيار الانسب لهم لهذه المرحلة
خامساً- المحافظون من جهتهم وهم المتهمون بالهيمنة على قرارات البلد،
ومن خلال ترشيحهم لأكثر من شخصية مع التفاوت في درجات تشددهم ورؤيتهم حيال الازمات والتحديات التي تمر بها ايران،
قدموا صورة عملية على أن قوات الحرس والخط الثوري بشكل عام
غير محكومين لرؤية إملائية واحدة ،
وليسوا متزمتين الى النهاية بشأن التعاطي مع الغرب والعلاقة مع أمريكا
خلافا للولايات المتحدة المحكومة
لرؤيتين سياسيتين فحسب ؛هما
رؤية (الحزب الجمهوري)( والديمقراطي)
ويبدو أنهم كانوا مقتنعين -أي الخط الثوري-أن ما بحوزتهم من تأييد جماهيري مع تعددهم فإنه سيصل بهم لمضاهاة المرشح الاصلاحي .
مايعني بالضرورة الذهاب الى جولة ثانية. هذا السيناريو المتصور ليس بالضرورة أن يكون مرسوماً بشكل مسبق
لكن لاينبغي استبعاده.
فالأولوية عند الخط الثورة هو حماية النظام الاسلامي وتعزيز مكانته داخليا وخارجيا، وهي فرصة سانحة لأن يقارن الرأي العام الايراني والدولي بين الديمقراطية الايرانية والامريكية المفضوحة.
ديمقراطية الليبرالية المتوحشة التي يجهل فيها الناخب الأمريكي أين سيذهب صوته ولمن .
فكل ما بوسعه هو اختيار أحد المندوبين عن ولايته في (المجمع الانتخابي) المتألف من ( 538 )دون ان يعرف اسمه.
اضافة الى اختياره لاحد المرَشَّحَيّنْ للرئاسة على أن يكون الحسم في الاختيار للمندوب عن الولاية وليس للناخب.
بهذه المقارنة يعرف الشارع الايراني والمراقب الدولي الرسمي وغير الرسمي
زيف ما تتبجح به امريكا وبطلان افتراءاتها على النظام الاسلام في ايران.
سادسا- وما مادمنا في سياق الحديث عن الانتخابات الايرانية فلابأس بالاشارة الى أن ماحصده المرشح الاصلاحي (پزشكيان )من اصوات تعود اسبابه
الى أن الكثير من الشباب _ونسبتهم عالية في المجتمع الايراني _لم يتعمقوا باهمية الانتخابات و تأثيراتها.
فجل الشباب الايراني يبحث عن فرصة عمل و حياة مستقرة تؤمن له الزواج و السكن و الراتب .
و لم يستطع اي من المرشحين المحافظين تقديم برنامج واضح و حل لهذه المعضلات غير الوعود و بعض التطمينات الآنية
في حين كانت وعود ( پزشكيان) تستهوي الشباب اكثر لقلة تجربتهم ومعرفتهم بدهاليز السياسة .
كما أن النظرة للتنافس السياسي بين التيارات السياسية على أنه صراع بينهما ولدت احباطا عند بعض الناخبين .
ولو دققنا أكثر لوجدنا أن نسبة المشاركة في طهران ازدادت 10.6% و في قم 3.8% و انخفضت في باقي المحافظات ما بين 0.3% الى 20.4% مقارنة بالانتخابات السابقة التي فاز بها الشهيد رئيسي (رض) و تفسير زيادة النسبة هذه في طهران يعود للتغيرات في آراء المواطنين حول (جليلي )و (پزشكيان) ولشدة التنافس بين الجناحين مما تسبب بجنوح الكثيرين بشكل حاد الى هذا الطرف أو ذاك،
و بالاخص ميل الشباب غير الملتزم الى (پزشكيان) الاصلاحي و ربما حتى في قم المقدسة .
هذه التأثيرات التنافسية لا تجدها في بقية المحافظات بهذا المستوى عدا القليل منها ، و ذلك بسبب التأثيرات القومية كما حصل في (أذربيجان الشرقية ) و (الغربية) و باقي المحافظات ذات الاصول التركية .
و منها أيضا (زنجان )و (همدان) او ذات الطابع السني كالاكراد و البلوش في (سيستان )و( بلوشستان) فقد مالت كفتها الى (پزشكيان )و إن لم ترتفع نسبة التصويت فيها عن السابق. .
ولعل من جملة الاسباب التي ادت الى ارتفاع نسبة التصويت الى (پزشكيان) هي وعوده برفع العقوبات عن إيران !! و هذا الأمر يعني ضمنا التقارب و الانفتاح على المعسكر الغربي الامريكي وهو أمر بات يستهوي الكثير من الشباب غير الواعي و غير العقائدي و المتأثر بالاعلام الغربي .
وهؤلاء كثيرون في العاصمة و بعض المدن و منها (قزوين )و( كرج )و (المدن الكبرى ).
في حين ان (جليلي )صرح خلافا لذلك و هو الوقوف بشدة بوجه المعسكر الامريكي وهذا الامر يوحي للشباب على وجه الخصوص الذهاب الى المواجهة و شد الاحزمة على البطون
وبطبيعة الحال فان الشباب يميلون الى الراحة و الدعة كما هو معلوم .
الخلاصة ان مسألة حب الثورة الاسلامية و شخص الامام الخميني أو الامام الخامنئي أو عدم الايمان بهم وبالنظام الاسلامي ليس هي الملاك دائما و ليس هو المعيار في تفسير هذه التغيرات التي لاحظناها في الانتخابات الايرانية .