قال تعالى : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء : 65]
نعرض لتوضيح المراد بالآية من خلال مطالب :
1.. الآيةُ الكريمةُ تتصدّرُ القسمَ بنفسه تعالى ، وهو من أعظم أنواع القسم ، للدلالة على شدّة أهمّية الأمر الذي يريد القسم عليه وهو التسليم للقائد الولي .
إنّا نجد المولى في موارد عديدة قد يقسم بمخلوقاته دون نفسه ، فقال : {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، {وَالْقَمَرِ …} ، { وَالنَّهَارِ … }، {وَاللَّيْلِ …} ، {وَالسَّمَاءِ …} ، {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} ، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}، فأقسم الله هنا بـ (8) أقسام ، كلّها بمخلوقاته، ومثلها قوله : {وَالْفَجْرِ …} ، {وَلَيَالٍ عَشْرٍ } ، {وَالشَّفْعِ }، { وَالْوَتْرِ }، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} بينما في مورد التسليم الولي القائد اقسم بذاته الكريمة .
2.. القسم بذاته يريد أنْ يثبت أهميّة الأمر الذي يريد القسم عليه ، وهو في غاية الأهمّية، ألا وهو أنّه لا بدّ من الرجوعِ للقائدِ في كلّ أمرٍ لم تصلْ فيه الأمّةُ إلى قرار، فلا يصحّ أنْ يذهبَ كلٌّ إلى رأيه، {… فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ…} [الأنعام : 153] ، { … يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ…}.
ثمّ لا يبلغُ فيكم الإيمانُ أمده ومراتبه الحقيقيّة، إلّا إذا وصلتم إلى مرحلة التسليم والقناعة التامّة بقرارات القائد ، *ولايكفي عدم الاعتراض على الحكم ، ما لم تصلوا إلى مرحلة القناعة التامّة ، بحيث لا تجدون حتّى في أنفسكم قناعة غير قناعة القائد ، في مقام الانقياد لأوامره ، وإلّا فأنتم لم تبلغوا تلك الدرجة من الإيمان بالله* ، {لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
3.. مثالان من التاريخ :
( أحدهما ): في عصيان أمر القائد:
في وقعة صفين ، حينما أشرف جيش معاوية على الانهزام لجأوا إلى أمر الخداع، فاقترحوا التحكيم ، ولم يكن القائدُ عليّ بن أبي طالب راضياً به، وكان مصرّاً على ضرورة الاستمرار في الحرب، ولو أمهلوه ساعات لكان النصرُ آتياً ، ولكن المسلمين الذي كانوا في صفوف عليّ أصروا على خلاف رأيه في قبول التحكيم ، فباءت الأمّة بالفشل الذريع، هذه سنّة الله في خلقه، ثمّ كان أمر التحكيم ، فاقترح جيش عليّ (الحمل الوديع أبا موسى الأشعريّ ، الذي لم يرسخ الايمان في قلبه) ، واختار معاوية الداهية الخدّاع المراوغ ( عمرو بن العاص) ، وبعد تمام المفاوضات بينهما :
قامَ أبو موسى الأشعريّ فقال: أيّها الناسُ… إنّي قد رأيتُ أنْ نخلعَ عليـَّاً ومعاويةَ ونجعل هذا الأمر في عبدِ اللهِ بن عمرِ بنِ الخطَّاب … ألا ، وإنـّي قد خلعتُ عليـَّاً من الخلافةِ كما خلعتُ خاتمي هذا من أصبعي والسلام . ثمّ قامَ عمروُ بن العاصِ وقال: أيـّها الناس ! هذا أبو موسى الأشعري وقد خلعَ صاحبـَهُ عليـَّاً من الخلافةِ … ألا ، وإنـّي قد أثبتُ معاويةَ في الخلافة كما أُثبتُ خاتَمِي هذا في أصبعي» .
الثاني في الانقياد لأمر القائد :
قال سعدُ بنُ معاذِ في يوم بدرٍ: أنا أجيب نيابة عن الأنصار … *إِنا قد آمنّا بك وصدّقناك ، وشهدنا أنّ كلّ ما جئتَ به حقّ ، وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة ، فامضِ … فلو استعرضتَ هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجلٌ ، وصِل من شئت ، واقطع من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، وما أخذت من أموالنا أحبّ إِلينا ممّا تركت … إِنّا لصُبَّرٌ عند الحرب ، ولعلّ اللّه يريك منّا ما تَقَرّ به عينك* .
فعلى الأمّة أنْ تقول لقائدها الفقيه الورع المتقي الحكيم الإمام الخامنئي ما قاله سعدً بن عبادةَ للقائدِ محمّد بن عبد الله (ص) لتنجو الأمّة وتفوز ، ويأخذ بيدها إلى بَرِّ الأمان .
2 / 10 / 2024