موقف العراق في رفض المخطط الأمريكي لإعادة تشكيل غزة؛ والمؤثّرات الداخلية و الخارجیة (ومنها الدور الايراني)

إبراهيم الندّاف

المقدمة:

العراق بين الضغوط والالتزام بالموقف الثابت، يواجه تحديات معقدة في سياق التوازنات السياسية الداخلية والتدخلات الإقليمية والدولية التي تسعى إلى إعادة رسم خريطة المنطقة وفق مصالح قوى الهيمنة العالمية. ومع ذلك، فإن العراق، انطلاقًا من تاريخه في مقاومة الاحتلال ورفضه للهيمنة الأجنبية، يدرك أن موقفه الداعم للقضية الفلسطينية ليس مجرد خيار سياسي، بل هو التزام يعكس هويته العربية والإسلامية، ويرتبط بأمنه القومي. وفي هذا الإطار، تلعب إيران، كقوة إقليمية ودولية، دورًا جوهريًا في دعم العراق للحفاظ على سيادته واستقلال قراره، كما أنها أحد أبرز المعارضين للتمدد الصهيوني سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، مما يتماشى مع المصالح العراقية في مواجهة مشاريع التطبيع والاحتواء الأمريكي.

إذا أراد العراق الحفاظ على مكانته في محور المقاومة وإثبات موقفه المناهض للتطبيع، فعليه تكثيف جهوده لدعم القضية الفلسطينية سياسيًا ودبلوماسيًا، والعمل على إحباط المخططات الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية. إن الدور العراقي لا يجب أن يقتصر على الرفض الرمزي، بل يجب أن يمتد إلى مبادرات تعزز صمود الشعب الفلسطيني عبر الدعم الإنساني والاقتصادي وتوطيد العلاقات مع قوى المقاومة. وهنا يأتي الدور الإيراني كعامل داعم، حيث توفر إيران الدعم اللوجستي والاستراتيجي لحلفائها في مواجهة مخططات التطبيع التي تحاول واشنطن وتل أبيب فرضها على المنطقة.

ورغم الانقسامات السياسية والتباينات في المصالح بين القوى العراقية المختلفة، إلا أن الموقف الرسمي والشعبي يبقى ثابتًا تجاه فلسطين، انطلاقًا من قناعة بأن القضية الفلسطينية ليست مجرد أزمة محلية،

بل هي معركة تتعلق بمستقبل المنطقة بأكملها. فالمخططات الأمريكية – الإسرائيلية تستهدف إضعاف الدول الرافضة للهيمنة وفتح الطريق أمام التطبيع، الذي يسعى إلى دمج إسرائيل في المنظومة السياسية والاقتصادية الإقليمية على حساب الحقوق الفلسطينية. وفي هذا السياق، تمثل إيران قوة رئيسية في التصدي لهذا التمدد، حيث تقود تحالفًا إقليميًا يهدف إلى مواجهة الهيمنة الصهيونية وإفشال المشاريع التي تهدف إلى تغيير التوازنات لصالح الاحتلال.

العراق يدرك أن انخراطه في أي مشروع يخدم أجندة التطبيع أو تصفية القضية الفلسطينية ليس مجرد تنازل سياسي، بل يشكل تهديدًا لهويته الوطنية واستقلال قراره وأمنه القومي. ولهذا، فإن بقاء العراق ضمن محور المقاومة لا ينبع فقط من تضامن تاريخي، بل هو جزء من استراتيجية الحفاظ على سيادته في مواجهة الضغوط الخارجية.

وهنا يعد التنسيق مع إيران عنصرًا أساسيًا في تعزيز هذا التوجه، حيث تظل إيران قوة محورية في مواجهة النفوذ الإسرائيلي المتزايد في المنطقة، سواء عبر أدواتها الدبلوماسية أو من خلال دعم الفصائل المقاومة التي ترفض الهيمنة الغربية. إن استمرار العراق في هذا الموقف يشكل حاجزًا أمام المخططات الأمريكية – الإسرائيلية، ويؤكد أن العراق لن يكون جزءًا من أي ترتيبات تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة وفقًا للرؤية الصهيونية التي تتجاهل الحقوق الفلسطينية المشروعة.

في ظل التحولات الإقليمية التي تحاول الولايات المتحدة فرضها على العراق والمنطقة، خصوصًا من خلال مشروع إعادة تشكيل غزة سياسيًا واقتصاديًا، يجب على العراق، بصفته دولة مقاومة ومناهضة للتطبيع، أن يتخذ موقفًا يتماشى مع التزامه الاستراتيجي تجاه القضية الفلسطينية، وأن يدرك طبيعة الصراع الإقليمي الذي يُعاد تشكيله لخدمة المصالح الصهيونية. ومع ذلك، فإن هذا الموقف يواجه تحديات داخلية بسبب موازين القوى بين المكونات السياسية العراقية، إضافة إلى النفوذ الخارجي الضاغط، خاصة من خلال العلاقات الكردية – الإسرائيلية والاختراق الاستخباراتي في بعض المناطق السنية، وهذا ما سنحاول التركيز عليه في هذا المقال:

أولاً- منع أي شكل من أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني

إذا كان المخطط الأمريكي يسعى إلى إعادة تشكيل المنطقة بطريقة تجعل غزة تحت سلطة كيان تابع لإسرائيل والإمارات، فإن الخطوة التالية ستكون فرض التطبيع على بقية الدول العربية. وهنا يجب على العراق أن يكون في مقدمة الدول التي ترفض هذا التوجه.

أ. القوى الشيعية تتبنى موقفًا صارمًا في رفض أي شكل من أشكال التطبيع، وتؤكد أن أي علاقة مع الكيان الصهيوني تمثل خيانةً لمبادئ المقاومة. إنها تدفع باتجاه تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي مع المقاومة الفلسطينية، بهدف إحباط أي محاولات لاختراق الفصائل الفلسطينية أو فرض مشاريع مشبوهة.

ب. القوى السنية بشکل عام ترفض التطبيع باعتباره انتهاكًا للحقوق الفلسطينية وتفريطًا في ثوابت الأمة الإسلامية، و تدعم النهج الدبلوماسي الفاعل، داعيةً إلى تفعيل القنوات السياسية والإنسانية لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني. ورغم ذلك، فقد انتشرت خلال العقد الأخير بعض التقارير والأخبار التي تفيد بوجود تفاهمات بين شخصيات وتيارات سنية وجهات إسرائيلية، تهدف إلى تمهيد الطريق لنقل بعض سكان فلسطين إلى المحافظات الغربية في العراق.

ج. حتى اليوم، لا توجد تقارير أو تصريحات رسمية من القوى الكردية في العراق بشأن موقفها من مشروع تهجير سكان غزة إلى الأردن ومصر، لكن هذه القوى رغم علاقاتها المتنوعة إقليميًا، تحاول عدم اتخاذ أي موقف يسبب انزعاج القوى الغربية و الكيان الصهيوني بسبب المصالح و المشاريع المشتركة التي تربط الأكراد و خاصة أكراد اربيل بتلك القوى.

لذلك، يجب على العراق:

• رفض أي صفقات اقتصادية قد تؤدي إلى دمج العراق في منظومة التطبيع الاقتصادي مع الكيان الصهيوني.

• الضغط لمنع وجود أي بعثات دبلوماسية أو ممثليات تجارية صهيونية داخل الدول العربية.

• تعزيز التشريعات الوطنية التي تجرّم التعاون مع إسرائيل بأي شكل، والتأكيد على أن التطبيع خيانة للقضية الفلسطينية وانتهاك للسيادة العربية والإسلامية.

ثانياً: الموقف الكردي و السني تجاه المخطط الأمريكي

من الواضح أن واشنطن لا تهدف إلى حل الأزمة الإنسانية في غزة، بل تعمل على تفكيك البنية المقاومة فيها، وإعادة هندسة المشهد السياسي بما يخدم الاحتلال الإسرائيلي.

في أوائل فبراير 2025، اقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطة تقضي بترحيل سكان قطاع غزة، البالغ عددهم نحو 2.3 مليون نسمة، إلى الدول المجاورة مثل مصر والأردن. وصف ترامب غزة بأنها “غير صالحة للسكن”، مشيرًا إلى أن إعادة إعمارها قد تستغرق ما بين ثلاث إلى خمس سنوات، مما يجعله يعتقد أن الحل الأمثل هو إعادة توطين الفلسطينيين في أماكن توفر لهم ظروف حياة أفضل.

واجه هذا الاقتراح رفضًا قاطعًا من كل من مصر والأردن. أعرب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن رفضه لفكرة تهجير الفلسطينيين إلى الأراضي المصرية، مؤكدًا أن الشعب المصري سيعبر عن استنكاره لمثل هذه الخطوة. كما رفض الأردن هذا المقترح بشدة، معتبرًا إياه تهديدًا لأمنه الوطني.

بالإضافة إلى ذلك، هدد ترامب بقطع المساعدات الأمريكية عن مصر والأردن إذا لم يقبلا باستقبال الفلسطينيين المرحّلين من غزة، مما أثار استياءً واسعًا في الأوساط العربية والدولية.

أما العراق، بصفته أحد أركان محور المقاومة، يجب أن يكون في مقدمة الدول التي تعارض هذا المخطط، وتكشف أبعاده الحقيقية أمام الرأي العام العربي والإسلامي.

لكن موقف العراق قد يتأثر ببعض العوامل الداخلية، ومنها:

أ. العلاقات الكردية – الإسرائيلية: الحزب الديمقراطي الكردستاني، بقيادة مسعود بارزاني، لديه علاقات تاريخية مع إسرائيل، والتي تنظر إلى الأكراد كحليف إقليمي محتمل لمصالحها، و وجود علاقات استخباراتية وأمنية بين جهاز الموساد وإقليم كردستان قد يُستغل لتمرير بعض التوجهات الإسرائيلية في العراق، رغم أن حكومة الإقليم لا تستطيع فرض سياساتها الخارجية بمعزل عن الحكومة الاتحادية في بغداد، لكنها بعد سقوط الاسد اخذت تمارس دور دولي و اقليمي.

ب. النفوذ الاستخباراتي الغربي والإسرائيلي في بعض المناطق السنية: كان للمخابرات الغربية والإسرائيلية دور في التأثير على بعض القوى السنية العراقية، خصوصًا بعد عام 2003، حيث استُخدمت قوى متطرفة كأدوات لتفكيك المنطقة، كما حدث مع تنظيم داعش. و هذا ما تؤكده تصريحات السنة و تأييدهم للجولاني و لم يصرحوا تصريح واحد ضد تدمير اسرائيل لسوريا عسكريا و جغرافيا و لم يعترضوا على مشروع ترامب بطرد شعب غزة.

ثالثاً- العراق كحائط صد ضدّ المشروع الأمريكي رغم الخلافات الداخلية

من خلال استعراض أبعاد هذا المخطط، يتضح أن الهدف ليس فقط إضعاف غزة، بل إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم المشروع الصهيوني. وهذا يعني أن المعركة ليست فلسطينية فقط، بل معركة كل القوى الرافضة للهيمنة الأمريكية والصهيونية في المنطقة.

لكن يبقى السؤال الأساسي: هل يمكن لبعض الخلافات الداخلية أن تؤثر على موقف العراق الرسمي تجاه غزة؟

رغم النفوذ الإسرائيلي في كردستان والنفوذ الاستخباراتي الغربي في بعض المناطق السنية، فإن العراق كدولة لن ينحاز إلى المخططات الأمريكية – الإسرائيلية، وذلك للأسباب التالية:

1. الهيمنة الشيعية على القرار الاستراتيجي العراقي، حيث تمثل الفصائل والقوى الشيعية المرتبطة بمحور المقاومة الجهة الأكثر تأثيرًا في السياسة الخارجية.

2. الإجماع الوطني العام على دعم فلسطين، حيث يبقى الخطاب العام في العراق رافضًا للتطبيع رغم الاختراقات.

3. عدم رغبة القوى السنية في المجازفة بمصالحها داخل العراق، ما يمنعها من دعم أي مشاريع صهيونية.

4. الدور الإيراني داخل العراق، الذي يدعم الموقف العراقي الرافض للمخططات الأمريكية في غزة.

رابعاً- تعزيز الدعم السياسي والإعلامي للمقاومة الفلسطينية

يجب أن يستخدم العراق منابره الدبلوماسية والإعلامية والسياسية لتعزيز الرواية الفلسطينية الحقيقية، ورفض أي تحركات تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية تحت غطاء إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية.

أ. دبلوماسيًا: يمكن للعراق أن يكون فاعلًا في الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي للضغط من أجل منع تنفيذ هذا المخطط، ورفض أي ضغوط أمريكية على الدول العربية للموافقة عليه.

ب. إعلاميًا: يجب على الإعلام العراقي الحر أن يلعب دورًا في فضح المخططات الأمريكية والصهيونية، ونشر التوعية حول خطورة استبدال المقاومة الفلسطينية بمشاريع اقتصادية هدفها السيطرة لا التحرير.

ورغم أن القوى الشيعية والسنية تتفق على ضرورة تعزيز الحراك الإعلامي والسياسي الداعم للقضية الفلسطينية، إلا أن بعض القوى الكردية تتعامل بحذر مع هذه الملفات، تجنبًا لإثارة خلافات مع القوى الغربية الداعمة لمشاريع الإعمار الاقتصادي في غزة.

إن هذا المخطط يسعى إلى عزل غزة عن محيطها المقاوم، مما يتطلب تكثيف التنسيق بين العراق وبقية أطراف محور المقاومة، بما في ذلك إيران وسوريا ولبنان واليمن، للتصدي لهذا التهديد الاستراتيجي.

المزيد من المشاركات
اترك تعليقا