حين وقف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غدير خم، تحت الشمس اللاهبة، رافعًا يد وصيه علي بن أبي طالب عليه السلام ليقول كلمته الخالدة: “من كنت مولاه فهذا علي مولاه”، لم يكن ذلك إعلانًا عابرًا، بل كان صرخة الفصل بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، بين الطريق المستقيم والانحراف الذي تتقاذفه الأهواء والمصالح. كانت الرسالة واضحة كوضوح النهار، ومع ذلك، ما إن التفت النبي إلى المدينة حتى بدأت المؤامرة، فلم يكد يجف حبر الغدير حتى استبدلت الولاية بالخلافة، واستبدل المولى بالمتسلط، وبيع الدين بدراهم السلطة وذهب الطموح السياسي.
ثم جاء الدليل الثاني، بعد خمسة وعشرين عامًا، عندما شقّت السيوف ظلمة الفتنة الكبرى، وكان الصوت الإلهي ينذر الأمة من جديد: “عمار تقتله الفئة الباغية”. كان عمار بن ياسر رضي الله عنه، الصحابي الجليل، يقف في جيش أمير المؤمنين علي عليه السلام، بينما كان قاتلوه في صفوف معاوية، فأي حجة بقيت لمن كان في قلبه شك؟ لكن الأمة، التي خذلت الغدير، خذلت الحق مرة أخرى، وأدارت ظهرها لعلي عليه السلام كما أدارت ظهرها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل، وهكذا سقطت الأمة في اختبارها الثاني، حين اختارت مهادنة الباطل والوقوف على الحياد، بينما كان الحق يصرخ أمام أعينهم بدم عمار الذي سال في معركة صفين.
ثم جاء المنعطف الثالث، عندما وجد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام نفسه أمام أمة متخاذلة، مترددة، لا تهتف إلا عند النصر، ولا تقاتل إلا إن ضمنت الغنائم. فكانت صلح الحسن عليه السلام مع معاوية لعنه الله إعلانًا غير مباشر عن إفلاس الأمة، شهادة على أن الناس قد تخلوا عن الدين الحق وعن امامهم الحسن عليه السلام ، وفضلوا الاستسلام لحكم آل أمية، الذين كانوا إلى وقت قريب أعداء الإسلام، مجهولي النسب، ملوثي التاريخ، فجاء صلح الإمام الحسن عليه السلام ليكشف للعالم أن الأمة قد باعت امامها وخليفة الله بثمن بخس وخذلته وتخلت عنه، وأن الزمن سيحمل المزيد من الكوارث، لأن من يترك الولي اليوم، سيسفك دم ابن النبي غدًا.
وهكذا كان، فبعد سنوات قليلة، كانت الأمة أمام أعظم امتحان في تاريخها، الامتحان الذي جسّد الحقيقة المطلقة: كربلاء. لم يكن خروج الإمام الحسين عليه السلام مجرد مواجهة سياسية، ولم يكن مجرد معركة عسكرية، بل كان صدمة روحية، زلزالًا أخلاقيًا، هزة أرادها الله أن تعيد الأمة إلى رشدها. خرج الإمام الحسين عليه السلام في وجه يزيد بن معاوية، ليس طمعًا في حكم، ولا طلبًا لدنيا، بل ليعيد الدين إلى مساره الصحيح، حتى لو كلفه ذلك حياته، وحتى لو امتد نزيف دمه الطاهر ليملأ صحراء الطف. لكنه لم يكن وحده، كان معه ثلة من الصفوة الذين اختاروا الموت بعز على العيش بذل، فكتبوا بدمائهم ملحمة لن تموت، ملحمة تثبت أن الحق لا يُقاس بالعدد، وأن النصر ليس دائمًا في هذه الدنيا، بل في بقاء الفكرة وانتقالها عبر الأجيال.
واليوم، حين ننظر إلى فلسطين، إلى هذا الجرح النازف في قلب الأمة، نرى صورة أخرى من كربلاء، نرى ارض شعبا تخلى عنها أهلها، تمامًا كما تخلى المسلمون عن آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، نرى أرضًا بيعت بثمن بخس، كما بيعت خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد رحيله. ليست فلسطين مجرد قضية سياسية، بل هي اختبار جديد للأمة، اختبار سيكشف لمن ينظر بعين الحقيقة أن الخيانة لم تكن استثناءً في تاريخ المسلمين، بل كانت قاعدة تكررت في كل مفصل حاسم من مفاصل الصراع بين الحق والباطل.
لكن رغم كل ذلك، فإن القضية الأكبر لم تحسم بعد، فما زال هناك امتحان أعظم ينتظر الأمة، امتحان الانتظار. إن الانتظار الحقيقي ليس أن نعد الأيام والسنين حتى ظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه، بل أن نعد أنفسنا ليجدنا حين يظهر أهلًا للنصرة، أن نكون القاعدة المخلصة، المستعدة، الواعية، التي لا تخذله كما خذلوا جده في كربلاء، ولا تساوم على الحق كما ساوموا في صفين، ولا تقبل بالباطل كما فعلوا يوم تخاذلوا عن نصرة الإمام الحسن عليه السلام.
الإمام المهدي عجل الله فرجه ينتظر منا أن تكتمل القاعدة الصالحة، ينتظر أن نثبت أننا تعلمنا من الغدير وصفين وكربلاء، وأننا لن نكرر ذات الأخطاء، ينتظر أن نكسر دائرة الخيانة والتخاذل، أن نكون أهل الحق مهما كانت التضحيات، لأن من لم يكن مع الحسين عليه السلام يوم الطف، ولم يكن مع علي عليه السلام يوم صفين، فليكن مع المهدي عجل الله فرجه يوم الظهور، قبل أن يفوته القطار الأخير، ويجد نفسه في معسكر الباطل كما وجد غيره أنفسهم هناك عبر التاريخ، بعد أن ظنوا أنهم يقفون على الحياد.
إن يوم القدس، وكربلاء، والغدير، وقضية الانتظار، كلها حلقات في سلسلة واحدة، كلها وجوه مختلفة لمعركة واحدة، كلها امتحانات متكررة لهذا العالم، فإما أن نكون مع الحسين عليه السلام، مع فلسطين، مع الإمام المهدي عجل الله فرجه، أو نكون في المعسكر الآخر، حيث يقف يزيد ومعاوية وآل أمية، حيث يقف الصهاينة والطغاة، حيث يقف المتخاذلون والمنافقون. وليس هناك خيار ثالث.