المفاوضات الأمريكية الإيرانية مصدر عز وافتخار لمن يعرف قراءة وتحليل الوقائع..بوصلة المواقف..!
جليل هاشم البكاء
في عالم السياسة المليء بالتناقضات، تبرز لحظات حاسمة تشكل منعطفًا في مسار العلاقات الدولية، ولعل المفاوضات الأمريكية الإيرانية تمثل إحدى هذه اللحظات التي لا يمكن قراءتها بسطحية أو بنظرة شعاراتية، بل تحتاج إلى تمعن وفهم عميق لطبيعة توازن القوى وأدوات الصراع والإدارة. فهذه المفاوضات لم تكن مجرد جلسات تفاوض على طاولة، بل كانت سجالًا حضاريًا ونفسيًا واستراتيجيًا بين عقلين مختلفين في المنهج والرؤية، لكنها تشتركان في معرفة قيمة الكلمة عندما تُقال، وقيمة الموقف عندما يُثبت.
لقد شهدنا كيف عاد ترامب، رئيس الولايات المتحدة، إلى البيت الأبيض مزهوًا بخطابه الناري وغروره السياسي، يظن أن بإمكانه فرض الأوامر كما يفعل في صفقات المال والعقار ومع الدول التابعة، لكنه فوجئ بجدار منيع لا تخرقه التهديدات، ولا تهزه العنتريات. جدار إيراني مسلح بالعقيدة والبراغماتية في آنٍ واحد، قادر على امتصاص الصدمة والرد بالحكمة، يعرف متى يتحدث ومتى يصمت، ومتى يلوّح ومتى يوقّع.
من الخطأ أن يُختزل مسار المفاوضات في مشهد عابر أمام الكاميرات أو في مؤتمر صحفي سريع، كما يفعل ترامب مع الاخرين، فالمفاوضات هي صراع إرادات وامتحان أعصاب، وهي في الوقت ذاته مرآة تعكس حجم القوة الحقيقية لكل طرف. من هنا، فإن ما بدا للبعض تنازلًا، كان في عمقه تثبيتًا لموقف، وما ظنه آخرون ضعفًا، كان مناورة ذكية في رقعة شطرنج معقدة.
وعندما تبدأ المفاوضات في التبلور بشكل جديد، وعندما تخرج التصريحات بحذر مدروس، يدرك أهل الفهم أن إيران قد اقتربت من تحقيق مبتغاها، وأن ما يجري ليس تراجعًا بل إعادة تموضع نحو اتفاق يُبنى على الندية لا التبعية.
أما الذين لا يرون في هذه المفاوضات إلا مدعاة للتشكيك، فهم إما منساقون خلف حملات تضليل لا تنتهي، أو أنهم يجهلون أن السياسة ليست سيفًا مسلولًا دائمًا، بل في أحيان كثيرة تكون ورقة تفاوض تُكتب بالحكمة وتُوقّع بالعقل، لا بالعاطفة.
وفي المحصلة، فإن من يعرف قراءة وتحليل الوقائع، سيدرك أن هذه المفاوضات ليست فقط مصدر قوة، بل مصدر عز وافتخار، لأنها حافظت على الكرامة في لحظة كان من السهل فيها الانكسار، لكنها لحظة اختارت فيها إيران أن تفاوض من موقع القوة، لا الضعف، ومن موقع الثبات، لا التردد.