أهمّ مبادئ الإمام الخميني (قدّ) كما يراها الإمام الخامنئي (دام ظلّه الوارف)..!

إبراهيم النداف

مقدمة

من الصعب أن نكتب عن الإمام الخميني (قدّس سرّه) دون أن نستحضر التاريخ. فالرجل لم يكن صدى لحظة، بل كان في جوهره لحظة فاصلة صنعت صدًى طويلًا امتدّ إلى ما وراء الجغرافيا السياسية لإيران، ليمسّ قلب معادلة القوى في الشرق الأوسط.

في نهايات القرن العشرين، وفي وقت بدا فيه أنّ الخريطة مرسومة بإحكام فوق مائدة الكبار، جاء الإمام الخميني (قدّس سرّه) ليكسر التوازن، لا عبر دبابة أو صفقة، بل عبر فكرة. فكرة مشبعة بروح دينية، لكنها مسلّحة بفهم دقيق لطبيعة المواجهة: بين التابع والمتبوع، بين المستكبر والمستضعف، بين الإرادة الوطنية والهيمنة الدولية.

ومن بين أولئك الذين لم يكتفوا بالتتلمذ على هذه المدرسة، بل شاركوا لاحقًا في إعادة رسم ملامحها في سياق متغيّر، يبرز الإمام الخامنئي (دام ظلّه الوارف)، فإنه لم يكن مجرّد شاهد على الثورة، بل كان أحد مهندسي بقائها بعد العاصفة، وأحد حرّاس بوصلتها حين مالت بها رياح الداخل والخارج.

هكذا، حين يتحدّث الإمام الخامنئي (دام ظلّه الوارف) عن مبادئ الإمام الخميني(قدّس سرّه)، فهو لا يعيد اجترار نصوص محفوظة، بل يقرأها كمن عاشها، وخَبِر تقلّباتها، وفهِم دوافعها، ويعيد بثّها في زمان مختلف، بلغة وفية للأصل، متصالحة مع المتغيّر.

في هذا النص، لا نعرض سردًا نظريًا لمجموعة مبادئ، بل نحاول تتبّع خيوط مدرسة فكرية حملت مشروعًا حضاريًا، وانتصرت في زمن الهزائم، واستطاعت أن تُبقي للمنطقة شيئًا من معنى الكرامة، في عصرٍ استُبدلت فيه المبادئ بالمصالح، والرايات بالشركات.

أولاً: الإسلام الأصيل ونفي الإسلام الأميركي

في قلب التجربة الخمينية، كما نقلها وأكد عليها الإمام الخامنئي (دام ظلّه الوارف)، تكمن واحدة من أكثر المفارقات الفكرية تعقيدًا في عالمنا الإسلامي الحديث: مفارقة الإسلام في ذاته. لقد أدرك الإمام الخميني (قدّس سرّه) ببصيرة رجل رأى المشهد من خلف حجاب كثيف من الدخان والضجيج، أنّ ما يُعرض على الأمة باسم الإسلام ليس دومًا الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)، بل نسخ مزيّفة، مصنّعة، مبرمجة لخدمة مصالح قوى لا ترى في الدين إلا أداة ضبط أو أداة خضوع.

ومن هنا جاء التوصيف العميق والمُربك: “الإسلام الأميركي”. فلم يكن هذا المصطلح مصطلحًا دعائيًا بقدر ما كان توصيفًا دقيقًا لنموذجَي انحراف عن روح الإسلام الأصيل. الأول تيار الانغلاق، الذي يرى في النصوص سدودًا لا بوابات، ويجعل من الطقوس قوالب فولاذية تمنع العقل من الحركة. هذا التيار، وإن بدا في ظاهره متشددًا، فقد نزع عن الدين روحه التحررية.

والثاني تيار الانبطاح، الذي لبس رداء الحداثة ليبرر التبعية، والذي فرّغ الإسلام من مضمونه، وحوّله إلى مجرد طقسٍ خاص يُعاش في الزوايا، بينما يُسلَّم القرار السياسي والاقتصادي والثقافي إلى منظومة الهيمنة العالمية.

الإمام الخميني (قدّس سرّه) لم يواجه هذين التيارين كخصمين فكريين فحسب، بل كأدوات حقيقية في مشروع إخضاع الأمة. أما الإمام الخامنئي (دام ظلّه الوارف)، فقد واصل هذا التمييز، لا بوصفه اجتهادًا سياسيًا فحسب، بل كعقيدة مواجهة. ففي كل موقف، وكل خطاب، وكل تحليل، تجد هذا الفصل الحاد: بين الإسلام الذي يبني الإنسان ويحرّر المجتمع ويقاوم الظلم، وبين “إسلامٍ” يُستخدم لتبرير الاحتلال، أو لقمع الشعوب، أو لتسويق الاستسلام.

ولعلّ هذا هو ما جعل المدرسة الخمينية مدرسةَ توترٍ دائم مع المنظومة الغربية: لأنها لم تدخل معهم حربَ أسلحة، بل حربَ تعريفات.

ثانيًا: الثقة بالوعد الإلهي ورفض الهيمنة

في أدبيات الثورة الإسلامية، وتحديدًا في الرؤية التي صاغها الإمام الخميني (قدّس سرّه) وأعاد تأصيلها الإمام الخامنئي (دام ظلّه الوارف)، تبرز فكرةٌ قد تبدو لكثيرين خارج نطاق الحسابات “العقلانية” المعتادة، لكنها في التجربة الإيرانية كانت الفارق الحاسم: الثقة بوعد الله.

إنّ من يتأمل سير الأحداث في إيران أواخر السبعينيات، لا يجد تفسيرًا كافيًا لانهيار نظام الشاه – بكل ما كان يملكه من أدوات أمن وقمع وعلاقات دولية – سوى هذه الفكرة الجوهرية: أن هناك إرادة إلهية تعمل، لكن عبر أيدٍ بشرية تعرف ما تريد.

الإمام الخميني (قدّس سرّه) لم يكن يُنظّر للإيمان بوعد الله على طريقة العزلة أو الهروب من الواقع، بل جعله مركز الاشتباك مع الواقع. فكان يواجه الطغيان بشجاعة في أصعب اللحظات، لا لأنه كان يملك جيشًا أقوى، بل لأنه كان يؤمن أن من يصمد على المبدأ، تتحرك له السنن الإلهية.

وقد كان الإمام الخامنئي (دام ظلّه الوارف)، في قراءته لتلك المرحلة، يلفت إلى أن هذه الثقة لم تكن حالة روحانية مجرّدة، بل موقفًا سياسيًا مناهضًا للهيمنة. فالإيمان بوعد الله، حين يصبح قاعدة للعمل السياسي، يعني رفض الاستقواء بالخارج، ورفض الرضوخ لشروط “الشرعية الدولية” حين تُستخدم كسوط على ظهر الشعوب المستقلة.

من هنا، أصبحت “الثقة بالوعد الإلهي” ليست فقط مفتاحًا لفهم شخصية الإمام الخميني(قدّس سرّه)، بل مرآة لسياسة إيران الخارجية كما يراها ويقودها الإمام الخامنئي(دام ظلّه الوارف). فمن طهران إلى غزة، ظلّ هذا المفهوم حاضرًا: أن التبعية ليست خيارًا، وأن الكرامة لا تُشترى بمعونات، وأن الله – كما تقول الآية – مع الصابرين.

لقد أدار الإمامان معًا ـ في فترتين مختلفتين ـ معركة الإرادة، وكانت النتيجة: أن أمةً قيل إنها لن تصمد أسبوعًا، ما تزال قائمة، تقود مشروعًا يثير قلق الإمبراطوريات.

ثالثًا: دور الشعب ومكانة الجماهير

عندما كتب التاريخ صفحة الثورة الإسلامية في إيران، لم يكن الإسم الوحيد على الصفحة هو الإمام الخميني (قدّس سرّه)، بل كان خلف الحبر الناشف أصوات الملايين من الناس الذين نزلوا إلى الشوارع، وتحدّوا الشاه وأجهزته، وكسروا بأجسادهم العارية، صمت عقود من القهر. كان الإمام يعرف ذلك، بل كان يراهن عليه. ولهذا، فإنّ الإيمان العميق بـ”الشعب” لم يكن موقفًا تكتيكيًا عنده، بل كان عقيدة سياسية وفلسفية.

في قاموس الإمام الخميني (قدّس سرّه)، الشعب ليس جمهورًا للتصفيق، ولا كتلة رقمية تُستدعى في لحظات الاقتراع، بل هو الركن الركين، وهو صاحب الأرض. ولأن الإمام الخامنئي (دام ظلّه الوارف) كان شاهدًا على كل لحظة من تلك اللحظات، فإنه لا يزال حتى اليوم يكرّر المعادلة نفسها.

كان الإمام الخميني (قدّس سرّه) يحذر من المركزية الخانقة التي تجعل من الدولة وحشًا بيروقراطيًا يبتلع روح الأمة. وقد ذهب أبعد من ذلك، حين رفض أن يُختصر مفهوم “القيادة” في برج عاجي، بل رأى أن القائد الحقيقي هو من يتحرك وسط الناس، يسمع منهم، يتألم لآلامهم، ويحول مشاعرهم إلى سياسات.

لم تكن دعوة الإمام إلى “حكومة الشعب” مجرّد ترجمة إسلامية للديمقراطية، بل كانت تأصيلاً جديدًا لمفهوم “الولاية”، حيث تتجسّد الإرادة الإلهية عبر وعي الناس لا على حسابهم. ومن هنا نشأ النموذج السياسي الذي نراه اليوم في الجمهورية الإسلامية: مزيج فريد من المرجعية الدينية والمشاركة الشعبية.

أما الإمام الخامنئي (دام ظلّه الوارف)، فقد صاغ ـ استنادًا إلى تلك الرؤية ـ سياسة داخلية تُحذّر دومًا من أي ميل إلى تهميش الجماهير، وتدعو في كل محطة انتخابية إلى مشاركة واسعة، لا حبًا في الأرقام، بل إدراكًا بأن كل صوت هو – في الجوهر – تعبير عن انتماء، وتأكيد على أن الشعب لا يزال ممسكًا بالخيط.

لقد أراد الإمامان معًا أن يكون الشعب هو الضامن، لا المراقِب فقط. ولذلك رأينا الجماهير لا تكتفي بالتصويت، بل تنزل للدفاع، وتشارك في الإنتاج، وتدخل إلى ميادين الإعلام والثقافة والتعليم. فالجمهورية كما أرادها الإمام، لا تُبنى من فوق، بل من تحت ومن حيث يبدأ الناس.

رابعًا: نصرة المستضعفين ومعاداة الطغاة

منذ أن خرج الإمام الخميني (قدّس سرّه) من بين صفحات الحوزة إلى صخب الشارع، كانت البوصلة واضحة لا لبس فيها: انحيازٌ لا يُساوَم عليه للمستضعفين. لم يكن الفقراء في فلسفته مجرد مادة للخطابات، بل هم نُسغُ الثورة، وحرّاسها غير المعلنين، وشهداؤها المجهولون.

في زمنٍ كانت فيه الطبقات الحاكمة في الشرق الأوسط تعيش داخل قصور لا تُرى منها الأزقة، كان الإمام (قدّس سرّه) يصرخ من قم ومن النجف، ومن شرفات طهران المحترقة: “هؤلاء الذين يسكنون الأكواخ هم من يصنعون التاريخ، لا أولئك الذين يسكنون القصور.”

لم يكن ذلك انحيازًا عاطفيًا كما قد يتبادر للبعض، بل كان موقفًا سياسيًا بامتياز. ففي فلسفة الإمام، الفقر ليس قدَرًا، بل نتيجة منظومة ظلم عالمية، والطغيان ليس قَدَرًا سماويًا، بل منتج طبيعي للاستكبار والاستغلال.

الإمام الخامنئي (دام ظلّه الوارف) الذي لا تزال كلماته تفيض بنفس اللهجة، يؤكّد مرارًا أن الوفاء الحقيقي لمدرسة الإمام الخميني(قدّس سرّه) يعني التمسك بهذا الخط الأحمر: ألا تُنسى الطبقات المحرومة تحت سجادات القصور ولا في نَعم المؤتمرات الدولية.

وحين يتحدّث الإمام الخامنئي عن “روح القصور”، فإنه لا يكتفي بتوصيفٍ اجتماعيّ، بل يشير إلى نمط حياةٍ يُنتِجُ سياسيًا ناعمًا هشًّا، يُساوم في المبادئ، ويتقن لغة المصالح الضيقة، ويضمر احتقارًا خفيًا لنبض الشارع. وهي روحٌ غريبة عن مدرسة الثورة التي قامت من المساجد والمدن الشعبية و ليس من السفارات.

وفي كل خطاب، نجد الإمام الخامنئي (دام ظلّه الوارف) يؤكد على حل مشاكل الطبقات الفقيرة و المستضعفة. وهذا ليس مجرّد كلام، بل فلسفة حكم. فالمستضعفون ليسوا عبئًا على الدولة، بل مبرر وجودها. والدولة التي تتنكّر لهم، تتنكّر للثورة ذاتها.

وحين نقرأ في توجيهات الإمام الخامنئي(دام ظلّه الوارف) عن “الاقتصاد المقاوم”، أو دعم التعاونيات، أو العدالة في توزيع الثروة، فإنّنا لا نقرأ وصفات فنية فقط، بل نشهد استمرارًا لذلك الخط العريض الذي رسمه الإمام الخميني (قدّس سرّه) في مسيرة أكثر من ثلاثين عامًا.

إن مدرسة الثورة لا تقبل بالتجميل، ولا تقبل بتسويق الفقر كفضيلة. هي تؤمن بأن كل مواطن يجب أن يحيا كريمًا، ويجد عملًا، وسكنًا، وتعليمًا، ويُعامل لا كرقمٍ في ملف، بل كقيمةٍ في مشروع الأمة.

ولذلك، فإن الطغاة – سواء كانوا في الداخل أو الخارج – ليسوا فقط خصومًا سياسيين، بل هم خصوم للمبدأ الجوهري: مبدأ نصرة المستضعف. ولهذا السبب، لم يكن العداء مع أمريكا خيارًا ظرفيًا، بل نتيجة طبيعية لرؤية ترى أن هناك من يبني ثرواته على أنقاض فقر الآخرين، ومن يُشعل الحروب ليبيع السلاح، ومن يزرع الجهل ليستورد العقول.

في مدرسة الإمامَين، المستضعف ليس فقط من يلبس الرثّ، بل من يُحرَم من كرامته. والعدو ليس فقط من يطلق الرصاص، بل من يصنع الجوع، ويحتكر الدواء، ويغلق الأفق.

خامسًا: المواجهة الصريحة مع الاستكبار العالمي – من تسمية الشيطان إلى تفكيك المنظومة

لعلّ من أوضح سمات فكر الإمام الخميني (قدّس سرّه) والتي صنعت مفترق طريقٍ تاريخيًّا في العالم الإسلامي، هي تلك الجرأة في تشخيص العدو وتحديد اسمه بلا تلعثم ولا مراوغة. لقد خرج الإمام من قم إلى المسرح الدولي لا حاملاً لغة الدبلوماسيين، بل حاملًا نَفَس الأنبياء: “الولايات المتحدة الأمريكية هي الشيطان الأكبر.”

كانت هذه العبارة استثنائية في مفرداتها و في بنيتها الرمزية. الإمام الخميني (قدّس سرّه) لم يكن يوجّه اتهامًا سياسيًا ظرفيًا إلى إدارة أمريكية بعينها، بل كان يكشف بنية حضارية مغروسة في فلسفة الغرب الحديث: الهيمنة بالقوة، والنهب باسم التنمية، والغزو الثقافي المغلف بعناوين الحداثة وحقوق الإنسان.

وبهذه التسمية، أعاد الإمام صياغة المعركة الفكرية والسياسية بين الشرق والغرب لا بوصفها صراعًا بين دول، بل كصراع بين مشروعَيْن: مشروع الهيمنة ومشروع التحرر، مشروع الاستكبار ومشروع المستضعفين.

وهنا تتجلى عبقرية الإمام الخامنئي (دام ظلّه الوارف) الذي لم يكتفِ بتكرار الشعارات، بل اشتغل على تعميقها وبلورتها في خطاب عقلاني دون أن يُفرّغها من قوتها. ولقد أكّدت قيادته على أن “المواجهة مع الاستكبار” يجب أن لا تبقى مجرّد جملة تُرفع في المسيرات، بل تحولت إلى استراتيجية دولة، تترجم في السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة، وتُدرس في مراكز الفكر والتخطيط.

لقد أعاد الإمام الخامنئي(دام ظلّه الوارف) توطين هذه المفردة في قلب الوعي الإيراني والعربي، فجعل من “الشيطان الأكبر” عنوانًا لكل مشروع يسعى لمحو الهوية، أو تطويع الشعوب، أو كسر إرادة الأمة. ومن هنا نفهم لماذا لا يمكن فصل الموقف من أمريكا عن الموقف من القضية الفلسطينية، أو من الحصار الاقتصادي، أو من السياسات الثقافية الناعمة التي تهدف إلى سلخ المجتمعات عن دينها وتاريخها.

وإذا كانت الحروب الصلبة تجري بالسلاح، فإنّ المواجهة التي أسّسها الإمامان تجري بالسرديات. فـ”الاستكبار” ليس خصمًا عسكريًا فقط، بل هو منظومة خطابية، تحوّل الاحتلال إلى دفاع، وتحوّل المقاومة إلى إرهاب، وتحوّل الضحية إلى جاني. والإمام الخميني(قدّس سرّه) كان من أوائل من كشف هذا الانقلاب في المفاهيم، ولذلك ناصر الحركات الإسلامية، وأعاد للقدس مكانتها المركزية.

اليوم، في ظل القيادة الراهنة، تتسع دائرة المواجهة لا لتنتج الصراع، بل لتفكك أسسه. فالإمام الخامنئي(دام ظلّه الوارف) يؤمن بأن كشف الاستكبار لا يكفي، بل يجب أن يُقدَّم بديله: مشروع إسلامي قائم على العدالة والكرامة والسيادة. ولهذا السبب، فإن صوت طهران لا يزال ـ رغم الحصار والتهديدات ـ الأعلى في الدفاع عن فلسطين، وعن المقاومة، وعن وحدة الأمة، وعن الحق في تقرير المصير بعيدًا عن وصاية الغرب.

فالمواجهة، في فكر الإمامَين، ليست رغبة في الخصومة، بل ضرورة أخلاقية ما دام في الأرض ظلم، وما دامت هناك عروش تُبنى على جماجم الفقراء.

سادسًا: الاستقلال الشامل… من فكّ الارتباط إلى بناء الذات

في زمنٍ باتت فيه مفردة “الاستقلال” تُستخدم على ألسنة السياسيين كما يُستخدم الورق النقدي المتهالك، جاءت مقاربة الإمام الخميني (قدس سره) لتعيد لهذه الكلمة عمقها الحضاري. فالرجل لم يكن يرى الاستقلال مجرد مغادرة آخر جندي أجنبي من التراب الوطني، بل كان يراها منظومة تحرّرية تبدأ من العقل، وتمتد إلى السياسة، وتتجذّر في الاقتصاد، وتنتهي في الثقافة.

وقد التقط الإمام الخامنئي (دام ظله الوارف) هذا المعنى بوعي استراتيجي، فاستثمره في إعادة تعريف علاقات الدولة مع العالم، وأعاد ربط الكرامة السياسية بالاعتماد على الذات. فالاستقلال، كما يراه الإمامان، ليس شعارًا يُرفع في المناسبات، بل هو مبدأ ناظم لسلوك الدولة والمجتمع، هوية سيادية تصوغ كل قرار، من السياسة الخارجية إلى النمط الغذائي.

أول ما يبدأ به الاستقلال هو القدرة على اتخاذ القرار دون إذن من سفارات الآخرين. فالإمام الخميني (قدس سره) ما كان يهاب أن يقف وحده، لأنه كان يعرف أن الإرادة الحرة تخلق القوة. وقد واصل الإمام الخامنئي(دام ظله الوارف) هذا النهج، فرفض أن يكون القرار الإيراني رهينة لمزاج العواصم الغربية، أو مرتهنًا بشروط مؤسسات المال الدولية.

لكنْ، الاستقلال الذي نادى به الإمام لم يكن انعزاليًا، بل كان استقلالًا تفاعليًا. أي أنّ الأمة ليست مطالبة بأن تنغلق، بل أن تدخل الساحة الدولية من موقع القادر وليس التابع. ولهذا أطلق الإمام الخامنئي مفهوم “الاقتصاد المقاوم” كاستراتيجية مقاومة للتبعية، تبني الاكتفاء، وتخلق تنمية من داخل المجتمع.

ولعلّ هذا المفهوم الذي يبدو تقنيًا للوهلة الأولى، يخفي وراءه فلسفة كاملة: أن الاقتصاد ليس فقط إنتاجاً وتوزيعاً، بل هو مرآة للسيادة. فإذا كنت تستورد خبزك، ودواءك، وفكرك، فاعلم أنّ استقلالك معلّق على خيط دقيق.

ومن هنا، تأتي أهمية المحتوى الثقافي الذي كان الإمام يراه ساحة معركة لا تقل عن الميدان العسكري. فكل فيلم مستورد، وكل مناهج تعليمية مفرغة من الهوية، وكل وسيلة إعلام تعيد إنتاج النمط الاستهلاكي الغربي، هي في عمقها أدوات استعمار ناعم. ولذلك، نرى أن الإمام الخامنئي(دام ظله الوارف) قد ركّز بشكل لافت على صناعة المحتوى، على تعزيز الإنتاج المعرفي، على تقوية المراكز البحثية، على تحرير الخطاب الثقافي من عقدة النقص والاستلاب.

وعليه، فإنّ الاستقلال ليس مجرد حالة طارئة تُستدعى حين التهديد، بل هو مشروع يومي. مشروع يربّي الطفل على أن يكون صاحب قرار، ويعلم الطالب أن العلم لا يعني الانبهار، ويقنع السياسي أن المقايضة على السيادة خيانة لا دهاء.

في مدرسة الإمام الخميني(قدس سره)، وامتدادها الطبيعي في خط الإمام الخامنئي(دام ظله الوارف)، الاستقلال ليس بندًا في الدستور فقط، بل عقيدة شعب. وعليه فإنّ الذين يسوّقون للتطبيع باسم الواقعية، أو يبررون التبعية باسم التقدم، هم في الحقيقة يبيعون أوطانهم على أقساط.

الاستقلال في النهاية، هو تلك اللحظة التي يقرر فيها مجتمع ما أن يصوغ قدره بنفسه، حتى لو مشى في طريق مليء بالأشواك. وهذا ما فعله الإمامان وما أورثاه، وما نحتاج أن نُبقيه مشتعلاً.

سابعًا: الوحدة الوطنية… حجر الزاوية في مشروع الأمة

في لحظات التحوّلات الكبرى، لا يُسأل القادة عن قراراتهم، بل عن قدرتهم على الإمساك بالنسيج الوطني من التمزّق. هكذا كان الإمام الخميني (قدس سره) يدرك تمامًا أنّ الثورة التي لا تحمي وحدتها الداخلية، تصبح قابلة للاختراق، مهما بلغت شعاراتها من القوة.

الوحدة، في مشروع الإمام(قدس سره) لم تكن مجاملة سياسية، بل أصل من أصول البناء الإسلامي. لم يكن يقف عند الحدود التقليدية للطائفة أو القومية، بل كان يرى أن الأمة – بما هي كيان تاريخي حضاري – تُبنى على أساس العقيدة المشتركة والمصلحة الجامعة، لا على أساس الانتماء الضيق. ولذلك، حين تحدّث عن الشيعة والسنة، لم يستخدم قاموس المجاملات، بل لغة العقد الشرعيّ والسياسيّ بين مكوّنات أمة واحدة، تواجه خصومًا مشتركين وتخوض معركة مصير مشترك.

وقد جاء الإمام الخامنئي (دام ظله الوارف) ليواصل هذا النهج، لأنه كان يدرك ـ كالسابقين من الرجال الذين صنعوا التاريخ ـ أنّ التحديات القادمة لن تفرّق بين سني وشيعي، عربي وفارسي، بل ستضرب كل من يخرج عن منظومة الهيمنة.

من هنا، جاءت تحذيرات الإمام الخامنئي(دام ظله الوارف) المتكررة من مشاريع التفرقة، سواء تلك التي تصنعها غرف الاستخبارات أو المنابر المأجورة. كان يقرأ الحدث من زاوية أن الطائفية ليست خلافًا فكريًا، بل خطة سياسية مرسومة، تُدار بالمال والسلاح والإعلام، وتُنفّذ بأيدٍ داخلية قد لا تعرف أنها تحفر قبور شعوبها بيدها.

لقد كان الإمام الخميني، ومن بعده الإمام الخامنئي، يعرفان أن وحدة المجتمع تُصان بتقاسم العدل، وتحقيق الإنصاف، وتكريس المواطنة التي لا تُصنّف الفرد حسب مذهبه أو لغته، بل حسب التزامه بقيم الأمة. ولهذا رفض الإمام (قدس سره) أي خطاب يُقصي أو يُخوِّن المسلمين على أساس طائفي أو قومي.

وهنا نصل إلى النقطة الجوهرية: الوحدة في مشروع الإمامين لا تعني الذوبان، بل التفاعل. لا تعني أن نتنازل عن خصوصياتنا، بل أن نرتقي فوقها حين يتعلق الأمر بالمصير المشترك. وقد مثّلت هذه الرؤية صمّام أمانٍ في لحظات الاحتقان الطائفي، من العراق إلى البحرين، ومن لبنان إلى سوريا.

ولأنّ الإمامين يعرفان حجم هذا السلاح الفتّاك – أي سلاح التفرقة – فقد جعلا من محاربة الطائفية والعرقية هدفا أساسياً. فحين يتمكن العدو من تفتيت الصفوف، تصبح الأمة مجرّد فسيفساء من الخيبات، قابلة للتصدع أمام أبسط الهزات.

في سياق كهذا، نفهم لماذا جعل الإمام الخميني اسبوع “الوحدة الإسلامية” موعدًا للتذكير بالخطر الداهم، ولماذا جعل الخطاب الإعلامي والديني تحت رقابة المفهوم الوحدويّ.

إنّ وحدة الأمة، في فكر الإمام الخميني من لوازم البقاء، وإذا كان للعدو ألف سلاح، فليس أفتك من أن يجعلنا نُقاتل بعضنا نيابةً عنه.

ولهذا، فإن من يريد أن يخدم خط الإمام، لا يكفيه أن يرفع صوره، بل عليه أن يبني مساجد لا تفرّق، ومناهج لا تُقصي، وخطابات لا تشعل الفتن.

خاتمة: الإمام كمشروع… لا تمثال

حين يغدو القائد مدرسة، لا مجرد ذكرى، يصبح الوفاء له فعلاً حيًّا لا احتفالًا شكليًّا. والإمام الخميني (قدس سره) لم يكن رجل مرحلة، بل رجل مشروع. مشروع استعاد به الإسلام أصالته، واستعادت به الأمة بوصلتها. رجلٌ لم يُعِدّ خطابه للاستهلاك السياسي، بل صاغ به رؤية نهضوية متكاملة، منبعها الوحي، ومسارها الأمة، وغايتها الخلاص.

لقد أدرك الإمام الخامنئي (دام ظله الوارف) منذ اللحظة الأولى أن الخطر يكمن في تحريف خط الإمام أو تسطيح مبادئه، في جعل ذكراه مناسبة طقسية تُكرَّر كل عام، لا محطة وعي تُضيء درب المستقبل. ولهذا وقف، منذ رحيل الإمام، مدافعًا عن خط الإمام، ولا عن ماضٍ، بل عن أفقٍ يتجدد في كل لحظة تحدٍّ.

المبادئ التي استودعها الإمام في جسد هذه الثورة – من الإسلام المحمدي الأصيل، إلى الاعتماد على الجماهير، ومن رفض الاستكبار إلى نصرة المستضعفين – هي معالم لمن أراد أن يفهم كيف يُبنى مجتمع مقاوم، وكيف تُصان الهوية في زمن الاختراقات، وكيف تبقى الأمة واقفة في وجه العاصفة.

والإمام الخامنئي، بهذا السياق، لم يكن مجرّد وريث سياسيّ، بل حافظٌ أمينٌ على الأمانة الثقيلة. من خطبه المتلفزة، إلى توجيهاته للمفكرين والعلماء، ومن اهتمامه بالتربية إلى نظرته الاستراتيجية للسياسات الإقليمية، ظلّ ذلك الصوت الذي يُذكّرنا كلما خفَتَ الحماس، أن الإمام الخميني لم يمت.

فإذا أردنا أن نُبقي هذا المشروع حيًّا، علينا أن نعود إلى النصوص الأصلية، إلى المبادئ الأولى، إلى الأسئلة الجوهرية: لماذا قامت الثورة؟ ما الذي أراده الإمام فعلًا؟ وأين نحن من ذلك اليوم؟

إنه اختبار مستمرّ، يواجه فيه كل جيلٍ امتحان الوفاء الحقيقي. فالإمام الخميني(قدس سره) ليس نصبًا تذكارياً، بل عقلٌ وروحٌ ومسيرة. وإذا كان لكل زمنٍ رجلُه، فإن الإمام الخامنئي(قدس سره) هو ذلك الرجل الذي تصدّى بثورته لزمن الغفلة والتيه والتشكيك، فكان المعلّم والمذكّر، والخفير الذي لا ينام على ثغور المبادئ.

وفي عالمٍ تكاثرت فيه المتاهات سيبقى نور الإمام، إذا أُصغِي إليه بعين العقل دليلًا لمن أراد أن يسير لا أن يركد. فهذه ليست خاتمة مقال، بل بداية إلتزام.

المزيد من المشاركات
اترك تعليقا