تعيش الترويكا الأوروبية (ألمانيا، فرنسا، بريطانيا) حالة ارتباك غير مسبوقة في تعاملها مع الملف النووي الإيراني. ورغم الخطاب المعلن حول حماية الأمن الدولي وضمان الشفافية النووية، إلا أن الواقع يكشف أن الهدف الحقيقي من وراء مواقفها هو محاصرة إيران وإخضاعها لإرادة الولايات المتحدة الأمريكية. لم يعد الأمر يتعلق بحلّ أزمة أو احتواء خطر محتمل، بل باتت الضغوط الأوروبية امتدادًا مباشرًا للنهج الأمريكي الهادف إلى تفكيك القدرات الإيرانية والسيطرة على قرارها السيادي.
اليوم، تدرك إيران جيدًا طبيعة هذه الأهداف، وتتعامل معها بوعي استراتيجي يختلف عن الماضي. لم تعد طهران في موقع الطرف الضعيف الذي يساوم على بقائه، بل أصبحت قوة إقليمية معترفًا بها حتى من قبل خصومها. التصريحات الأمريكية الأخيرة وتقارير الاستخبارات الغربية، إلى جانب اعتراف بنيامين نتنياهو علنًا بتنامي القدرات الإيرانية النووية والعسكرية، تؤكد أن إيران باتت لاعبًا أساسيًا في موازين القوى في الشرق الأوسط. هذا التحول الكبير أربك أوروبا والولايات المتحدة معًا، إذ أصبح فرض الإملاءات على طهران أمرًا أقرب إلى المستحيل.
ما تسميه الترويكا الأوروبية “مفاوضات” ليس سوى غطاء لاختراق المنظومة الإيرانية من الداخل. الهدف الفعلي لهذه الدعوات هو الكشف عن مواقع تخزين اليورانيوم المخصب وفرض دخول المفتشين الدوليين الذين يتحولون في الواقع إلى أذرع شبه استخباراتية، تنقل المعلومات الدقيقة إلى واشنطن وحلفائها تمهيدًا لاستهداف البنية التحتية النووية الإيرانية في المستقبل. التفاوض هنا ليس أداة لحل الخلافات، بل وسيلة لجمع المعلومات والسيطرة، وهو ما تدركه طهران تمامًا وترفضه بشكل قاطع.
في المقابل، لم تعد أوروبا تملك القدرة على فرض الضغوط كما في السابق. فالعقوبات التي فرضتها على روسيا ارتدت عليها بشدة وأدخلتها في أزمة اقتصادية خانقة، تسببت في ارتفاع أسعار الطاقة، وانهيار قطاعات صناعية، وتباطؤ النمو في معظم الاقتصادات الأوروبية. أصبح واضحًا أن أوروبا عاقبت نفسها قبل أن تعاقب غيرها، والآن تحاول جاهدة التغطية على فشلها من خلال تصعيد خطابها ضد إيران. غير أن الواقع مختلف؛ فالقارة العجوز تواجه أزمات متراكمة لا حصر لها، من اضطرابات سياسية واحتجاجات شعبية إلى مشاكل الهجرة العكسية وتراجع القدرة التنافسية الصناعية. كل ذلك جعل قدرتها على فرض عقوبات جديدة محدودة للغاية، بل إن استخدام آلية “السناب باك” اليوم لن يحقق سوى المزيد من الأضرار للداخل الأوروبي قبل أي طرف آخر.
المعادلة تغيّرت. إيران لم تعد الدولة التي يمكن عزلها أو كبحها بالتهديدات. حتى داخل أوروبا نفسها تتصاعد الأصوات المعارضة لمزيد من التصعيد ضد طهران، إدراكًا منهم بأن الضغوط غير مجدية في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة. فإيران اليوم لاعب أساسي في معادلة الشرق الأوسط، وقوة إقليمية معترف بها، بينما أوروبا غارقة في أزماتها الاقتصادية وتراجع نفوذها العالمي.
إن محاولات الترويكا الأوروبية محاصرة إيران وإجبارها على الخضوع لإملاءات غربية أصبحت محاولة يائسة في ظل الواقع الجديد. استخدام آلية “السناب باك” لن يغير شيئًا، فالأدوات القديمة لم تعد فعالة أمام قوة إقليمية صاعدة أصبحت اليوم أحد أركان موازين القوى في المنطقة. لقد انقلبت المعادلة بالكامل، وأصبحت إيران في موقع قوة بينما أوروبا تواجه عجزًا واضحًا عن فرض شروطها أو حتى إدارة أزماتها الداخلية المتفاقمة.