إخبارية ثقافية عن الاتحاد الإماراتية: تطوّرُ البشرية السريع والسريع جداً في طي التاريخ، وحرق المراحل، في القرنين الأخيرين، يشير إلى أن مهمة الرصد والتوصيف والتحليل والتركيب وقراءة المشاهد الكبرى سريعة التغير، باتت مهمةً جلّى تنوء بها مراكز الدراسات والبحوث فضلاً عن العقول المنفردة. وحين وصلت البشرية إلى لحظة «الذكاء الاصطناعي» ذهبت العواطف والمشاعر بكل تصنيفاتها أدراج الرياح وانتصرت الأرقام والإحصاءات والأفكار المجردة على القيم الإنسانية والأخلاق البشرية.
▪️ في التاريخ البشري كانت طرق «المواصلات» بالمشي أم بالحيوانات سبيلاً لاحباً لانتقال الحضارات، وتطوّر ذلك بحسب كل حضارةٍ، إلى وسائل أسرع، مثل «البريد» القديم بين المدن والحواضر على ظهور الخيل أو الإبل، ومثل «الحمام الزاجل»، ثم حدثت ثورة إنسانيةٌ في القرنين الأخيرين، حيث اخترع التصوير بناءً على فكر وتجربة الحسن بن الهيثم و«الكاميرا المظلمة» وصولاً إلى الصورة الفوتوغرافية البدائية في عام 1829 حين التقط جوزيف نيسيسفور نييس أول صورةٍ فوتوغرافية في التاريخ.
▪️ وفي محاولة للتكثيف والاختصار، فقد تطوّر ذلك إلى «الصحافة» و«الراديو» و«التلفزيون» و«السينما»، وبدأ الإنجليزُ حريةَ الصحافة، وتم اختراع الصحيفة اليومية، وكتب الفيلسوف الألماني «هيغل» أن «الصحيفة هي الصلاة العلمانية الصباحية للإنسان الحديث»، وكتب الفرنسي «توكفيل»: «إن الاعتقاد بأن الصحف لا تخدم إلا تأمين الحرية ينتقص من أهميتها: فهي تحافظ على الحضارة».
▪️ وفي الحرب العالمية الأولى، دخل «الراديو» التاريخَ ليصبح وسيلةَ اتصالٍ قادرة على الوصول إلى حشودٍ وجماهير كبيرةٍ وواسعةٍ، وظهر «التلفزيون» ليطبع القرن العشرين بطابعه الطاغي، لا بالصحافة وحدها ولا بالراديو ولا بالسينما التي تم اختراعها قبله، وتطور ذلك إلى «الإنترنت»، وكتب بعض الفلاسفة الفرنسيين بأن الإنسان مع «التلفزيون» أصبح له حق في 15 دقيقةً من الشهرة والتأثير بينما هو مع «الإنترنت» أصبح من حقه أن يكون مؤثراً في 15 خمسة عشر شخصاً، أما مع وسائل التواصل الاجتماعي فبات من حقه التأثير في الملايين دون أن يشعر هو أو يشعروا هم.
▪️ واكتملت هنا لحظة «التفاهة الممنهجة» مع «وسائل التواصل الاجتماعي»، حيث أصبح البشر يتلقون الأخبارَ بألسنتهم كما هو التعبير القرآني الكريم، عبر «إعادة النشر» أو «تسجيل الإعجاب» ونحو ذلك من التسميات التي تعبّر عن زمن التفاهة الممنهجة بجدارة واستحقاق، حيث لا عقل ولا تمحيص ولا نتائج، بل تحريضٌ وفوضى وأضرار، وهذا يدل على أن سرعة التواصل والتأثير ما هي إلا نوعٌ من القضاء على معنى العلم والتأمل والتحليل، وأصبحت الدول والمؤسسات والرموز التي لا تستطيع اكتشاف الفارق بين هذه الأبعاد عرضةً للتخبط.
▪️ وسائلُ «التواصل الاجتماعي» تسهّل إيصالَ المعلومة، ولكنها لا تميّز بين صحيحها وخطئها كما كانت تفعل الصحافة، وتسهل انتقال «الثقافة» ولكنها لا يمكن أن تبنيها أو تنتجها فضلاً عن أن تطوّرها أو تنميها، والمثال يوضح الفكرة، فقد تتناقل وسائل التواصل الاجتماعي «معلومات مغلوطة» أو «أخبارٍ مكذوبة» أو «تحليلات مليئة بالخطل»، فتصبح «ترنداً» واسعَ الانتشار وقابلاً للتقليد من الطبقات التافهة في المجتمعات، فيشغل عقول الملايين، لكنه في النهاية بلا لونٍ ولا طعمٍ ولا رائحةٍ، بمعنى أنه لا يزيد في الحقائق ولا الوقائع ولا ينقصها، بل هو مجرد إلهاءٍ وإشغالٍ للجماهير والعامة عمّا هو أنفع لهم زرافاتٍ ووحداناً، مجتمعاتٍ ودولاً، جماهير وأفراداً.
▪️ وأخيراً، فأي صانع قرارٍ في العالم، وبالذات في الدول الديمقراطية، يحتاج دائماً إلى «السرعة» أكثر من «الدقة»، وإلى «الانتشار» و«التأثير» أكثر من «الصواب»، وإلى الأنجح «لحظياً» أكثر من الأفضل «زمانياً».. بمعنى الاعتماد الكامل على «التكتيكات» ونسيان «الاستراتيجيات»، وهو ما سيعيد حلقات التحضر الإنساني القهقرى، في زمنٍ بات يعتمد فيه الإنسانُ أكثر فأكثر على «الذكاء الاصطناعي».