هل تتقدم جبهة الغرب والولايات المتحدة ام هي في تراجع؟.
اذا وصلنا الى نتيجة مفادها أن نظام الهيمنة هو في تراجع، فإن ذلك يعني ان الجبهات الاخرى الاقليمية والوطنية التي تعتبر مرتكزات لها، ومنها الكيان الصهيوني هي في تراجع ايضاً من الناحية التاريخية والاستراتيجية. لا يغير ذلك نجاحاتها في بعض الساحات او المعارك، حتى وإن كانت اساسية. كما حصل في إغتيال القادة والدمار والتجويع أو خروج سوريا من محور المقاومة. فالمناخ العام لتراجع قوى المركز وتراجع حاكميته وادوات تدخله سيفرض نفسه على المركبات الاساسية لكل إقليم وساحة وبلد. فكلُ تراجعٍ لنظام الهيمنة استراتيجياً هو تراجع للكيان الصهيوني وللقوى المحلية المتماهية معهما استراتيجياً ايضاً. والعكس صحيح.
وهذه بعض الملاحظات:
تُجمع كل المؤشرات العسكرية والاقتصادية والعلمية والمجتمعية والاخلاقية والقانونية والقيمية أن “النظام العالمي” في مرحلة تراجع وتفكك. لا حاجة لاعادة ذكر الاحصاءات والارقام التي باتت تملأ تقارير مراكز الابحاث والاعلام ودراسات المفكرين في جبهة الغرب نفسها، وليس خارجها. وهنا قد يعترف البعض بهذا التراجع، لكنه يقدم اطروحة معروفة مفادها، أن النظام الاستعماري شهد مراراً حالات تراجع، لكنه استطاع بعد حين استعادة مصادر قوته وهيمنته. وان من طبيعة النظام الرأسمالي والليبرالي تجديد نفسه. الجديد هنا ان هذا كان يحصل بين اطراف نظام الهيمنة نفسه. فتنهار فيه قوى لتستلم عصا السبق قوى من داخله تقوم بتجديده. كما انهارت قوى اسبانيا والبرتغال لتتولى القيادة فرنسا والمملكة المتحدة، او كما انهارت القوى الاخيرة لتتولى القيادة الولايات المتحدة الامريكية.
إن تراجع نظام الهيمنة ومعه الكيان الصهيوني ليس مسألة اقتصادية، أو تكنولوجية او انه تراجع في إمتلاك مصادر القوة فقط، بل يعود أساساً لتآكل وانهيار النظام الاستعماري وقيمه وأدوات عمله اساساً. وإن كل مظاهر التراجع الاخرى هي نتاج تآكل هذا النظام وإنهيار مرتكزاته الاساسية. فهذا النظام قام منذ القرن السادس عشر، على سياسات الابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية، والوحشية المطلقة والنظم الرأسمالية التي هدفها الاول والاساس هو الربح، والفردية والعنصرية وتفوق الرجل العنصري الأبيض. فمع نشأة الرأسمالية كان التصور أن المنافسة والبحث عن الاسواق ستجعلها تنتشر للعالم كله، لتقدم رسالة حضارية وتنموية تعم البشرية كافة. لكن نشأة الرأسمالية من نهب القارات الاخرى وابادة السكان، واستقواء الاستعمار بالرأسمالية وتدميرها كل المقومات القيمية والاجتماعية والخلقية والمادية لتفكيك ما يسمى بـ”البطريركية”، أي ارتباطات الانسان بانتمائاته الطبيعية، إن وقفت أمام تراكم المال والارباح. فالذي يتآكل ويتراجع الان هو كامل هذه المنظومة. وان ظهور التصدعات على السطح هو لانهيار وتضعضع الاسس والمقومات الموروثة من اعماق التاريخ.
لذلك تأتي البدائل اليوم من قوى من خارج هذا النظام. تعمل وفق مفاهيم وانظمة وقيم وتطلعات تختلف عن المنظومات الاستعمارية والصهيونية. إنها (البدائل) تأتي بالذات من المستعمرات القديمة التي كان نهبها واستغلالها هو الاساس في تموين، وتغذية، واستقواء النظام الرأسمالي العالمي، ونتيجته الطبيعية، الاستعمار والامبريالية والصهيونية. لكنها تأتي ايضاً من حركة الشعوب بما في ذلك شعوب الدول الرأسمالية والمستعمرة ذاتهم.
“جون ميرشيمر” الاستاذ الكبير في جامعة “شيكاغو” والذي يعد اليوم من أكبر العلماء السياسيين الامريكيين وفي العالم، يشرح بدقة في كتابه “الوهم الأكبر” The Great Delusion (2018) هزيمة “نظام الهيمنة” بأحلامه الليبرالية لإكتساح العالم، وفرض القيم الليبرالية والنظم الرأسمالية وسياسات الهيمنة، أمام كل من السياسات الواقعية كما مع روسيا والصين، او السياسات الوطنية كما في العراق وأفغانستان وغيرهما.
– إن تراجع قدرات نظام الهيمنة في مركزه يعني ان العالم يعيش اليوم مرحلة إنتقالية تعمها الفوضى وحالات التعطيل والتصادم. وهو ما ينعكس بغياب الحاكمية الشمولية العليا، والقرارات والسياسات الأممية. فلم يعد الأمر كما كان خلال القرون والعقود الماضية. فهذه الفوضى، وتراجع السياسات الاستراتيجية في المركز، وارتباك سياساتها، وضعف فعالية قواتها، وتخليها عن دعم حلفائها وحمايتهم سواء أكانوا اقاليم ومناطق نفوذ او بلدان، بل مطالبتهم هم بدعمها، أدى لتصاعد دور الصراعات/التسويات في الاقاليم والدول. فالدولة او الاقليم الذي لا تتقدم فيه قوة ماسكة إقليمية او محلية سيفقد وزنه، وسيكون عرضة للفوضى والاقتتال ومختلف انواع الازمات. لا نقول ان تأثيرات المركز العالمي تلاشت، بل نقول انها ضعفت وتراجعت، وإن ادوار القوى المحلية تصاعدت. وهو ما يفسر سلسلة تطورات باتت تحصل امام انظارنا في مختلف الفضاءات والاقاليم والمناطق والدول.
هذا هو وضع منطقة غرب اسيا (المسماة خطأ بالشرق الاوسط). اذ يحاول الكيان الصهيوني بدعم امريكي ان يلعب دور الحاكمية والاملاءات على الاخرين، لتكون له اليد العليا. والذي يواجهه، 1- ما يسمى بقوى الممانعة، أو محور المقاومة وما تضمه من حكومات ودول وشعوب. او 2- ما يسمى بالقوى الواقعية، او ما يسمونه بـ”سياسة التوازن” (رجل هنا ورجل هناك) كما هي سياسات معظم دول وحكومات المنطقة. وهذا هو وضع اوروبا ومحاولة الناتو ومن خلفهم الولايات المتحدة في السيطرة على القارة باضعاف روسيا واستسلامها، على الاقل حتى لقاء بوتين/ترامب في الاسكا. وهذا هو وضع الولايات المتحدة مع كندا وغرينلاند وبنما ودول امريكا اللاتينية. وهو وضع الصين وشرق اسيا.
لا يمكن تصور مشاريع هجومية استراتيجية لمرتكزات “النظام العالمي” كالكيان الصهيوني، او الانظمة المتماهية معها، او الجماعات التي تتغذى بافكارها وتحظى بدعمها وتحقق لها مشاريعها، مع تراجع المركز العالمي الذي يحميها ويغذيها. فالمشاريع الكبرى شهدناها مع صعود نظام الهيمنة والكيان الصهيوني. وسنشهد على الاغلب تفككها اليوم مع تراجع هذا النظام ووليدته الكيان الصهيوني. فمشاريع “الشرق الاوسط الكبير”، ومختلف الطروحات عن الممرات الجديدة، واسقاط الأنظمة، وإحلال اخرى بديلة، كلها مشاريع وخطط موجودة على الطاولة. لكن فرص نجاحها يخالف المنطق وواقع الامور. وهي لن تنجح الا في الحالات التي تتراجع فيها الانظمة او الشعوب او المقاومة او جميع هذه امام تهويلات الدعاية والاعلام والضغوطات السياسية والاقتصادية والنفسية.
الأهم اننا نمر بمرحلة انتقالية فوضوية قد تستمر سنوات وعقود. مرحلة سنشهد فيها ارهاصات ومخاضات واضحة بينة. سببها دخول “النظام الدولي” في مراحل التراجع والتفكك من داخله، وليس من خارجه فقط. ففي المراحل قبل الحرب العالمية الثانية بدأ المعسكر الغربي بفقدان سيطرته المباشرة على مستعمراته. وكانت من بين وسائل تجديد نفسه هي ايجاد وسائل اقتصادية وسياسية وتقنية تساعده في ابقاء سيطرته المباشرة وغير المباشرة على بقية بلدان العالم. لكن هذا الخيار شهد تراجعاً كبيراً بعد نهضة المستعمرات وتقدمها في مجالات عديدة على مستعمريها السابقين، خصوصاً مع نهاية القرن الماضي وبدايات هذا القرن. فانقلبت الكثير من ادوات القوة في “النظام الاستعماري” لتصبح بمثابة عقبات وعوامل ضعف وعرقلة. وهو ما لا يركز عليه الكثير من قادتنا ونخبنا. فيتكلمون عن مشاكلنا وصعوباتنا وخسائرنا بعقلية وثقافة الهزيمة، ومهابتهم التقليدية من الدول الاستعمارية والكيان الصهيوني، من دون الكلام عن التراجع الوجودي والبنياني في جبهة الهيمنة والاستكبار، والمشاكل والصعوبات والخسائر التي تصيبهم. مما يمثل ثلمة كبيرة في وعي المرحلة واستقراء مآلاتها، ويثير خلافات وانقسامات بين شعوبنا. تضعفنا وتثير المخاوف التي هي ارضية ممتازة لتقديم التنازلات المخالفة لموازين القوى. وهذه بعض الامثلة لانقلاب الادوات من عناصر قوة، إلى عوامل عرقلة وضعف في اطار نظام الهيمنة والكيان الصهيوني:
أ- الرفاه الاجتماعي وارتفاع المداخيل والمساعدات الاجتماعية واستقدام اليد العاملة الرخيصة التي كانت عامل وحدة وقوة داخل تلك المجتمعات. فتحولت الى اعباء وانقسامات اجتماعية وسياسية وارتفاع في تكاليف المعيشة واليد العاملة. التي لا يجدون حلاً لها الا بترحيل ديونهم وعملاتهم الى خارجهم، وبتقليص النفقات، وفرض التعرفة الجمركية، وتقليص العمالة، وزيادة سعر الفائدة، والهروب الى الأمام في مشاريع مغامرة بائسة. ومنها دعوات الحرب وتوسيع المساحات لتوفير المصادر الطبيعية الضرورية.
ب- النظم الديمقراطية والمساءلة والتداول السلمي والشفافية والحريات الواسعة التي جعلت من أوطانهم إنموذجاً يُقتدى به، ويهرب اليه ابناء الشعوب الفقيرة والمضطهدة، لتتكشف اليوم الكثير من الحقائق والعيوب. فهذه النظم هي نظم ديمقراطية في بلدانهم لكنها دكتاتورية وعنيفة عند غيرهم. وهذه النظم الاستعمارية عندما أهتزت قواعدها، وتراجعت مواردها ومصادر قوتها، واصبحت عاجزة عن “رشوة” جماهيرها تكشفت اكثر فاكثر طبيعتها وممارساتها العنصرية والعنفية والمنحرفة حتى مع مواطنيها او المقيمين والمتجنسين حديثاً في بلدانها. فشهدنا الكثير من المظاهر للتخلي عن اسس وضمانات هذه النظم. لتستبدل بالقرارات والتشريعات الشخصية التنفيذية، وترسيخ دور “الدولة العميقة” والمجمعات الحاكمة خارج اي رقابة. وازدياد ممارسات التصدي في الخارج لأي نظام ينجح “ديمقراطياً” في انتخاب قيادات لا تتماشى مع السياسات الاستعمارية والصهيونية. فيقومون بشيطنتها وفرض العقوبات عليها. والسعي عبر “الثورات الملونة والقوى الناعمة” للإتيان بانظمة موالية على حساب المصالح العليا لبلدانها.
ت- العدالة ونظم حقوق الانسان والقيم الانسانية والتعايش بين الشعوب، بغض النظر عن الدين والجنس والعرق والوطن كانت شعارات المراحل السابقة. فاستقبلوا الملايين من أبناء الشعوب الاخرى في حروبهم، وكيد عاملة رخيصة، عندما كانوا حاجة اقتصادية وضرورات ديموغرافية واجتماعية لبقائهم كبلدان مقتدرة وحيوية. لتتحول الى حملات ضد المهاجرين وعصبيات ضد الشعوب، وبرامج انتخابية وحكومية مملوءة حقداً وبشاعة على الشعوب الاخرى. ناهيك عن مواقفهم من قضايا العدالة والقوانين والمبادىء التي نشروها هم في المراحل السابقة. وفرضهم العقوبات على قضاة ومحاكم ومنظمات اممية لم تعمل شيئاً سوى القيام بما أوجبه ميثاق الامم المتحدة، والقانون الدولي والانساني، الذي صاغوه واقروه هم، وليس غيرهم.